رؤية شاملة لاتخاذ القرارات

العنوان المقترح: لا تعتمد على رأيك فقط

المقدمة

في حياة مليئة بالتعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أصبح من الواضح أن الاعتماد على الرؤية الفردية فقط قد يؤدي إلى أحكام خاطئة وقرارات قاصرة. يميل كثير من الناس إلى الاستناد إلى وجهة نظرهم الشخصية كأساس لتحليل المواقف وتقييم الأشخاص وتفسير الأحداث، متجاهلين عوامل متعددة قد تؤثر على الصورة الكاملة. إن هذه النزعة إلى التمركز حول الذات في التقدير والتحليل ليست فقط من مظاهر التحيّز المعرفي، بل تمثل أيضاً خطراً على التعايش المجتمعي واتخاذ القرار الرشيد.

إن الإنسان بطبيعته كائن محدود في إدراكه، يخضع لتأثيرات البيئة التي نشأ فيها، والثقافة التي تربى عليها، والمواقف التي مرّ بها. وهذا ما يجعل النظر للأمور من زاوية واحدة يشكل خطراً معرفياً وسلوكياً، ويقود إلى نتائج غير دقيقة أو حتى كارثية في بعض الأحيان. لذا، أصبح من الضروري أن نؤسس وعياً جماعياً يدرك أهمية تعدد الزوايا وتنوع مصادر الرؤية.

أولاً: التحيز الإدراكي وحدود الرؤية الذاتية

التحيز الإدراكي هو ميل العقل البشري لتفسير المعلومات بطريقة تؤكد معتقداته السابقة. عندما يواجه الإنسان موقفاً معيناً، فإنه غالباً ما يلجأ إلى تفسيرات تتفق مع نظرته الخاصة، ويهمل الأدلة أو الزوايا الأخرى التي لا تنسجم مع قناعاته. وهذا الانحراف المعرفي يشكل عائقاً أمام الفهم المتوازن والقرار السليم.

الرؤية الذاتية، مهما بلغت من الذكاء أو التجربة، تبقى محدودة بالإطار الزمني، والمعلومات المتاحة، والحالة النفسية. فالمدير الذي يقيّم أداء موظفيه بناء على انطباعاته الشخصية فقط، دون النظر إلى تقارير الأداء وآراء الزملاء، يضعف الكفاءة المؤسسية. والطبيب الذي يعتمد فقط على مشاهداته العيادية ويتجاهل آراء فريق العمل التحليلي أو الخبراء المتخصصين، قد يقع في تشخيص خاطئ يؤدي إلى مضاعفات خطيرة.

ثانياً: أهمية التعدد المعرفي في تكوين الرأي

الرأي السليم لا ينبني على المعرفة الأحادية، بل على تنوع المصادر والمقاربات. التعدد المعرفي لا يثري القرار فقط، بل يقلل من احتمال الوقوع في فخ الانحياز. وهذا المفهوم يعد من المبادئ الأساسية في العلوم الإنسانية والاجتماعية. فالباحث العلمي الجيد لا يعتمد على مصدر واحد، بل يجمع بين الدراسات الكمية والنوعية، وبين المنظورات الفلسفية والتجريبية، ليصل إلى تصور شامل ومتزن.

في المجتمعات المتقدمة، يُشجع صانع القرار على الرجوع إلى آراء مختلفة، حتى تلك التي تتعارض مع رؤيته الأولية، لضمان شمولية القرار وتقليص مساحة الخطأ. أما في المجتمعات التي تسود فيها الفردية المفرطة أو التسلط الرأسي في الإدارة، فإن الميل إلى الاعتماد على النظرة الذاتية فقط يؤدي إلى فشل السياسات وتفاقم الأزمات.

ثالثاً: التجربة الشخصية ليست مقياساً عاماً

كثير من الناس يعتقدون أن ما مروا به من تجارب يمثل الحقيقة الكاملة. فمثلاً، من تعرض إلى خيانة في علاقة شخصية قد يُسقِط هذه التجربة على كل من حوله، ويبدأ في بناء علاقاته المستقبلية على الشك والتوجس. وهذا النوع من التعميم العاطفي يفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الأفراد، ويجعله عرضة للتصرفات العدوانية أو الانعزالية.

نفس الأمر ينطبق على المواقف السياسية أو الاجتماعية. فمن عانى من ظلم أو تحيّز من فئة معينة، قد يرى أن هذه الفئة كلها مسؤولة، دون تفريق بين الأفراد والسلوكيات. الاعتماد على النظرة الذاتية هنا يتحول إلى سلوك انتقامي أو عدواني غير عقلاني، يقوّض أسس التعايش المجتمعي ويزيد من الانقسام والاستقطاب.

رابعاً: دور الحوار والتفاعل في تصحيح الرؤية

الحوار الفعّال يشكل أداة مركزية في تصحيح الرؤية الأحادية وتوسيع الأفق الإدراكي. من خلال التفاعل مع وجهات نظر مختلفة، يبدأ الإنسان في اكتشاف أبعاد لم يكن يلحظها، ويتعرف على أسباب ودوافع لم تكن تخطر بباله. وهذا ما يجعل المجالس الاستشارية، والمنتديات الثقافية، وورش العمل، من أهم الوسائل التي تسهم في ترشيد التفكير الفردي وتعزيزه بالمنظور الجماعي.

كما أن الاستماع الجيد – وهو مهارة نادرة في عالم مليء بالضجيج – يعتبر وسيلة فعالة لفهم الآخر والتقليل من حدة الأحكام المسبقة. فعندما ينصت الإنسان إلى من يخالفه في الرأي بتجرد وهدوء، يكتشف أن الاختلاف ليس بالضرورة ناتجاً عن جهل أو سوء نية، بل عن تنوع في التجربة والمنظور.

خامساً: الانعكاسات المجتمعية للتمركز حول الذات

في المجتمعات التي تنتشر فيها ظاهرة الاعتماد على النظرة الذاتية فقط، تتفكك البنى الاجتماعية شيئاً فشيئاً. يظهر الاستقطاب، ويتعزز الانغلاق، وتضعف الروابط بين الأفراد والمؤسسات. ويصبح الحوار شبه مستحيل، لأن كل طرف يعتقد أنه يمتلك الحقيقة الكاملة، ويرى الآخر على أنه مخطئ بالضرورة.

هذا السلوك المجتمعي ينتج عنه توتر دائم، وتراجع في الإنتاجية، وانهيار في الثقة المتبادلة. ويؤدي ذلك إلى اختلال في مؤسسات التعليم، وارتباك في الإدارة، وفقدان في التماسك السياسي. بينما المجتمعات التي تعترف بحدود الذات، وتسعى لدمج الآراء المختلفة، تستطيع أن تبني نماذج حوكمة أكثر شمولية وعدالة.

سادساً: التواضع المعرفي كقيمة أساسية

يُعدّ التواضع المعرفي من أرقى القيم الفكرية التي يمكن أن يتبناها الإنسان. وهو لا يعني التخلي عن الرأي أو فقدان الثقة بالنفس، بل يمثل وعياً عميقاً بحدود الإدراك البشري، واستعداداً دائماً لتعلّم الجديد ومراجعة القناعات عند اللزوم. فالعلماء الكبار لم يبلغوا مراتبهم إلا لأنهم شكّوا فيما يعرفونه، وفتحوا عقولهم لتجارب ومفاهيم جديدة.

إن الاعتراف بأن رؤيتك قد تكون غير مكتملة، أو متأثرة بعوامل لا تراها، هو أول الطريق نحو النضج المعرفي والذكاء الاجتماعي. فالتواضع لا يقلل من قيمة الإنسان، بل يعزز مصداقيته ويكسبه احترام الآخرين.

سابعاً: الرؤية الجماعية ودورها في تقوية القرار

القرارات المصيرية، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو الدول، لا تُبنى على رأي فرد واحد. بل تحتاج إلى مشاركة واسعة، وجمع للمعطيات من مصادر متعددة، ونقاشات معمقة تكشف عن الجوانب الخفية. وهذا ما يسمى “الذكاء الجماعي”، حيث تتكامل المعارف والخبرات لتوليد حلول مبتكرة ومستدامة.

حتى في العلوم الدقيقة، يُعد التحقق من النتائج من قبل زملاء المهنة (peer review) عنصراً أساسياً في قبول أي بحث علمي. لأن الفرد مهما بلغ من علم وفهم، قد يغفل عن تفصيل صغير يغير مجرى الاستنتاج بأكمله. فكيف إذا تعلق الأمر بقرارات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية معقدة؟

ثامناً: التطبيقات العملية في الحياة اليومية

في الحياة اليومية، تظهر الحاجة إلى تجاوز النظرة الفردية في كل المجالات. في العمل، يتوجب على المديرين استشارة فرقهم قبل اتخاذ قرارات مصيرية. في العلاقات الشخصية، يجب على الأزواج تفهّم وجهات نظر بعضهم البعض وعدم إصدار الأحكام السريعة. في المجال الطبي، من الأفضل اللجوء إلى الرأي الثاني عند تلقي تشخيص خطير. وفي التعليم، يجب تدريب الطلاب على التفكير النقدي والتحليل المتعدد الجوانب بدلاً من التلقين والانغلاق.

جدول يوضح الفرق بين الرؤية الذاتية والرؤية التعددية:

الخاتمة

في عالم متغير ومعقد، لم يعد الاعتماد على النظرة الذاتية وحدها كافياً لفهم الواقع أو اتخاذ قرارات صائبة. إن بناء وعي نقدي منفتح، قائم على احترام التعدد، وتقدير الخبرات المختلفة، وتوظيف الحوار البناء، يشكل دعامة أساسية لنمو الفرد والمجتمع. فكلما ارتقى الإنسان عن أناه الضيقة، واقترب من الآخر برؤية منفتحة، كلما أصبح أكثر نضجاً، وأقرب إلى الحقيقة. فالحكمة ليست في امتلاك الحقيقة، بل في السعي المستمر نحو فهمها من كل الزوايا.

المراجع:

1. Kahneman, Daniel. Thinking, Fast and Slow. Farrar, Straus and Giroux, 2011.

2. Charon, Rita. Narrative Medicine: Honoring the Stories of Illness. Oxford University Press, 2006.