أنمي Devilman: Crybaby — بين قسوة الشياطين وهشاشة الإنسان

في عالم الأنمي المليء بالأعمال التي تتناول الصراعات بين الخير والشر، يبرز أنمي Devilman: Crybaby كعمل فني استثنائي يدمج بين الرعب، الفلسفة، وعلم النفس الوجودي بأسلوب بصري وصوتي فريد، ليصوغ تجربة شعورية عنيفة ومزعزعة. عُرض هذا الأنمي لأول مرة في يناير 2018 على منصة Netflix، وهو إعادة تصور عصرية لسلسلة Devilman الكلاسيكية من تأليف “ناغاي غو”، تحت إشراف المخرج الياباني المميز “ماساكي يواسا”، أحد أبرز صناع الأنمي التجريبي.

تدور القصة حول شخصية أكيرا فودو، شاب هادئ وحساس يعيش في مجتمع يتحول تدريجياً إلى جحيم من الفوضى والشياطين والانهيار القيمي. هذه القصة تتجاوز حدود الخيال، لتغوص في جوهر الطبيعة البشرية، مفككةً المفاهيم التقليدية للهوية، والعدالة، والشر، والإنسانية.

التحول إلى ديفلمان: من الإنسان إلى الكائن الهجين

أكيرا فودو ليس بطلاً خارقاً بالمفهوم النمطي، بل هو شاب يتسم بالتعاطف المفرط والبكاء المستمر، مما أكسبه لقب “الطفل الباكي” (Crybaby). ولكن هذا الضعف الظاهري يتحول إلى عنصر قوة عندما يتعرض لحدث مصيري في حفل “السَّبَّات” الدموي، إذ يلتحم مع الشيطان “آمون”، ليصبح “ديفلمان” — كياناً يجمع بين قوة الشيطان وقلب الإنسان.

هذا التحول لا يقتصر على الجانب الجسدي، بل يُعدّ ولادة جديدة لهوية مركبة. فبينما يحصل أكيرا على قوى خارقة وقدرات جسدية مرعبة، فإنه يحتفظ بإنسانيته وعاطفته، وهو ما يجعل صراعه ليس فقط مع الشياطين التي تهدد البشرية، بل أيضاً مع ذاته وتناقضاتها.

ريو أسوكا: الشر في أرقى تجلياته الفكرية

الشخصية المحورية الأخرى في الأنمي هي ريو أسوكا، صديق أكيرا منذ الطفولة، والذي يمثل النقيض التام له. ريو هو شخصية باردة، عقلانية إلى حد التطرف، ومنفصلة تماماً عن المشاعر. منذ بداية القصة، يبدو أن ريو يحمل رؤية شاملة حول وجود الشياطين ومصير العالم، ولكنه في الحقيقة يتحرك بدوافع غامضة ومشوشة، يكتشفها المشاهد تدريجياً مع تقدم السرد.

ريو ليس مجرد محفز للأحداث، بل هو جزء جوهري من المأساة. مواقفه وتحركاته، سواء عن قصد أو جهل، تدفع العالم نحو التدمير والانهيار. وفي النهاية، يكشف الأنمي عن جوهر وجود ريو، مما يضفي على العمل طابعاً وجودياً عميقاً حول الهوية، المصير، والندم.

سيميائية العنف والجسد: عندما يتحول الجسد إلى نص بصري

يتميّز Devilman: Crybaby بإخراجه التجريبي الحاد الذي يتحدى المفاهيم التقليدية للرسوم المتحركة. يعمد المخرج ماساكي يواسا إلى استخدام أنماط تجريدية، وألوان صارخة، وتحولات جسدية عنيفة، ليوصل معانٍ تتجاوز النصوص الكلامية. لا يخجل العمل من تصوير مشاهد مفرطة في العنف أو الإباحية أو التشوهات الجسدية، لكنه لا يقدمها لغرض الإثارة الرخيصة، بل لتأكيد الفوضى الأخلاقية والانهيار الحضاري.

الجسد في هذا الأنمي ليس مجرد وعاء للشخصية، بل ساحة لصراعات أعمق: بين الشيطان والإنسان، بين الغريزة والعقل، وبين الحب والدمار. كل تحول جسدي يصور تحلل الحدود بين الكائنات، ويُحيل إلى رموز دينية ووجودية تعكس وضع البشرية المعاصر.

الحب، الجنس، والموت: قراءة رمزية في العلاقات الإنسانية

يطرح Devilman: Crybaby تصوراً جريئاً حول العلاقات الإنسانية، خصوصاً من حيث الجنس والحب، وهما مواضيع غالباً ما تُعالج بشكل سطحي في الأعمال الأخرى. لكن في هذا العمل، تصبح هذه المواضيع وسيلة لاستكشاف حدود الإنسان في مواجهة الشيطنة والتحلل الأخلاقي.

العلاقة بين أكيرا وميكي، زميلته التي تمثل له رابطاً إنسانياً عاطفياً وسط العاصفة، تجسد نقاء الحب الإنساني مقابل شهوات العنف والانحلال. أما العلاقات الأخرى، فقد تكون جسدية، عنيفة، أو حتى غامضة الهوية. وفي النهاية، تُظهر هذه العلاقات كم أن الإنسان هشٌ أمام رغباته، وكم أن الحب نفسه قد لا يكون كافياً للنجاة من المصير المحتوم.

رمزية نهاية العالم: الإنسان ككائن محكوم بالدمار الذاتي

تبلغ السردية ذروتها عندما يتحول الصراع بين البشر والشياطين إلى حرب إبادة جماعية، حيث تتلاشى كل القيم، ويغدو الإنسان أكثر وحشية من الشيطان نفسه. يختار الأنمي أن ينهي العالم لا بتفجير نووي ولا بكارثة طبيعية، بل بنوع من الانهيار الأخلاقي المطلق، حيث تندثر الإنسانية كفكرة، وتبقى فقط الفوضى والدمار.

النهاية الكارثية التي تتجلى في آخر الحلقات تمثل لحظة تأمل كونية، حيث يجلس أكيرا ــ أو ما تبقى منه ــ بصمت تام، بينما ينظر ريو، وقد تحطمت أوهامه، إلى جثة صديقه، ليدرك أنه لم يفهم شيئاً من البداية. هذه اللحظة تعكس عبثية الحرب، والندم الذي لا يمكن إصلاحه، والدمار الذي يُفقد كل معنى.

التحليل الفلسفي: الخير والشر كأفكار نسبية

من أهم محاور Devilman: Crybaby هو تفكيك الثنائية الأخلاقية التقليدية بين الخير والشر. على مدار الأحداث، يتضح أن هذه المفاهيم ليست ثابتة أو مطلقة، بل تخضع للظروف، والوعي، والتجربة الشخصية. الشياطين ليست دائماً شريرة، والبشر ليسوا دائماً خيّرين، بل يتنقل الجميع بين أطياف متداخلة من النوايا والانفعالات.

الأنمي لا يقدّم إجابة حاسمة حول من هو العدو الحقيقي، بل يضع المشاهد في مواجهة مرآوية مع ذاته، ليتساءل: ماذا لو أن الشيطان في داخلنا نحن؟ وماذا لو كان الإنسان أكثر شراً من الكائنات التي يخشاها؟

الجدول الزمني للأحداث الرئيسية

الأسلوب الفني والموسيقى: عناصر تكميلية للرسالة

الموسيقى التصويرية في Devilman: Crybaby من تأليف “كِنسوكي أوشيو”، تُعد واحدة من أقوى العناصر المرافقة للسرد. تراوح بين الإيقاعات الإلكترونية المشوشة والأنغام الحزينة، لتُعمق الإحساس بالقلق، والانفصال، والحزن الذي يغمر شخصيات العمل.

أما الرسوم والتحريك، فهي تجريبية، متمردة، ومغايرة لأي أنمي تقليدي. تُستخدم الخطوط غير المتجانسة والألوان الصارخة لتصوير اضطرابات نفسية وفوضى شعورية، مما يمنح المشاهد تجربة حسية بصرية لا تُنسى.

التأثير الثقافي والجدل حول العمل

أثار Devilman: Crybaby الكثير من النقاشات عند صدوره، بين من اعتبره تحفة فنية تتجاوز حدود الأنمي، ومن رأى فيه عملاً صادماً لا يصلح للعرض العام. هذا الجدل في حد ذاته يعكس قوة الرسالة التي يحملها العمل، وجرأته في كسر التابوهات، سواء الدينية، أو الاجتماعية، أو الجنسية.

الأنمي يستحق التقدير ليس فقط لجودة إنتاجه، بل لشجاعته في خوض مواضيع فلسفية وسياسية من خلال وسيط الأنمي، وهو ما يجعله عملاً مؤثراً يترك بصمة عميقة في ذاكرة كل من يشاهده.

خاتمة نقدية

Devilman: Crybaby ليس مجرد أنمي عن الشياطين أو المعارك، بل هو عمل يعيد تعريف حدود الوسيط البصري، ويستخدم الرعب والألم كأدوات تأمل عميقة في النفس البشرية. يجسد تراجيديا وجودية محكمة البنية، ويتحدى المشاهد ليواجه الجانب المظلم من ذاته. ليس من السهل مشاهدته أو نسيانه، لأنه يفتح جروحاً فكرية لا تندمل بسهولة.

المراجع:

1. MyAnimeList – Devilman: Crybaby

2. Yūasa, Masaaki. Director Commentary and Interviews – Devilman Crybaby (Netflix Japan, 2018)