الدول التي تمتلك حق الفيتو: التاريخ، النفوذ، والتأثير في السياسة الدولية

مقدمة

منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة عام 1945، كانت إحدى الركائز الأساسية لضمان توازن القوى داخل المجتمع الدولي هي منح “حق النقض” أو “الفيتو” لبعض الدول داخل مجلس الأمن الدولي. يُعد هذا الحق أحد أهم الأدوات التي تحدد شكل العلاقات الدولية وتحكم مسار النزاعات والقرارات المصيرية على الساحة العالمية. ومع أنه أُسس بهدف الحفاظ على السلام العالمي، إلا أن استخدامه كثيرًا ما أثار الجدل بسبب تأثيره الكبير على القرارات الدولية الحيوية، لا سيما في القضايا السياسية والعسكرية والإنسانية.

حق الفيتو لا يُمنح لأي دولة، بل فقط لخمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، روسيا، الصين، وفرنسا. هذه الدول الخمس تُعرف باسم “الدول دائمة العضوية”، وتمتلك صلاحيات استثنائية لا تتمتع بها باقي الدول الأعضاء في المنظمة، مما يجعل من حق النقض أداة قوية لفرض أجنداتها أو تعطيل أي قرار يتعارض مع مصالحها القومية أو تحالفاتها الاستراتيجية.

في هذا المقال الموسع، سيتم التطرق إلى الخلفية التاريخية لحق الفيتو، الدول التي تملكه، كيفية استخدامه، تأثيراته على النظام الدولي، إضافة إلى الجدل الأخلاقي والسياسي حول شرعيته، والاقتراحات المتكررة لإصلاحه.

الخلفية التاريخية لحق الفيتو

تأسيس الأمم المتحدة وميلاد الفيتو

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، اجتمع ممثلو القوى المنتصرة في مؤتمر يالطا عام 1945 لوضع إطار لمنظمة دولية جديدة تعكس توازن القوى العالمي، وتمنع تكرار ويلات الحرب. كانت الفكرة الأساسية هي أن الدول العظمى يجب أن يكون لها دور محوري في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن الدولي، باعتبارها الأطراف القادرة فعليًا على فرض وتنفيذ هذه القرارات.

وهكذا، نشأت فكرة حق النقض، كوسيلة لضمان ألا تُجبر إحدى الدول الكبرى على تنفيذ قرار لا توافق عليه، وبالتالي تتجنب انسحابها أو معارضتها الصريحة للمنظمة، كما حدث مع عصبة الأمم سابقًا. تم إدراج حق الفيتو في المادة 27 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنص على أن قرارات مجلس الأمن بشأن المسائل الجوهرية تتطلب موافقة تسعة من أعضاء المجلس، بشرط عدم معارضة أي من الأعضاء الدائمين.

الدول الخمس التي تمتلك حق الفيتو

1. الولايات المتحدة الأمريكية

تمثل الولايات المتحدة القوة الاقتصادية والعسكرية الأكبر في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومنذ حصولها على الفيتو، استخدمته في عدة مناسبات لحماية مصالحها الحيوية، لا سيما في الشرق الأوسط وفي دعم حلفائها مثل إسرائيل.

عدد مرات استخدام الفيتو: أكثر من 80 مرة حتى عام 2024، معظمها لمنع صدور قرارات ضد إسرائيل.

أمثلة بارزة:

• استخدام الفيتو ضد قرارات تدين بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

• اعتراض قرارات متعلقة بالتدخل في العراق أو أفغانستان دون توافق أمريكي.

2. روسيا (والاتحاد السوفييتي سابقاً)

ورثت روسيا حق الفيتو عن الاتحاد السوفييتي بعد تفككه في 1991. استخدمته موسكو مرارًا لحماية مصالحها الاستراتيجية في شرق أوروبا والشرق الأوسط، وللحد من تدخلات غربية تراها تهديدًا لأمنها القومي.

عدد مرات الاستخدام: ما يزيد عن 120 مرة، ما يجعلها الدولة الأكثر استخدامًا للفيتو في التاريخ.

أمثلة بارزة:

• اعتراض قرارات بشأن الحرب في سوريا، لا سيما تلك التي تدعو لمحاسبة النظام السوري.

• استخدام الفيتو ضد قرارات تتعلق بأوكرانيا وشبه جزيرة القرم.

3. الصين

كانت الصين من أوائل الدول المؤسسة للأمم المتحدة، ومُنحت عضوية دائمة بمجلس الأمن. بعد اعتراف المنظمة بجمهورية الصين الشعبية بدلاً من تايوان في عام 1971، أصبحت بكين الممثل الرسمي للدولة الصينية في المجلس. الصين تميل لاستخدام الفيتو بحذر، ولكنها تستخدمه لحماية مصالحها الإقليمية والاقتصادية.

عدد مرات الاستخدام: أقل من 20 مرة حتى 2024.

أمثلة بارزة:

• استخدام الفيتو ضد تدخلات دولية في ميانمار.

• اعتراض قرارات تنتقد سياسات الصين تجاه الأقليات مثل الإيغور.

4. المملكة المتحدة

رغم تراجع دورها العالمي بعد نهاية الاستعمار، إلا أن بريطانيا ما زالت تحتفظ بمكانة مؤثرة في مجلس الأمن، وتستخدم الفيتو غالبًا بالتنسيق مع الولايات المتحدة، خاصة في القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط وأوروبا.

عدد مرات الاستخدام: ما يقارب 30 مرة.

أمثلة بارزة:

• استخدام الفيتو لدعم التحركات الأمريكية في العراق.

• اعتراض قرارات بشأن حرب فوكلاند.

5. فرنسا

تُعرف فرنسا بنهج دبلوماسي أكثر استقلالية مقارنة ببقية الدول الغربية، إلا أنها لا تستخدم الفيتو بشكل منفرد كثيرًا، بل غالبًا في توافق مع بريطانيا أو الولايات المتحدة.

عدد مرات الاستخدام: أقل من 20 مرة.

أمثلة بارزة:

• استخدام الفيتو ضد قرارات حول النزاعات الإفريقية في مستعمراتها السابقة.

• اعتراض قرارات بشأن الأزمة الليبية.

آلية استخدام الفيتو داخل مجلس الأمن

مجلس الأمن يتكون من 15 عضوًا: 5 دائمين و10 غير دائمين يُنتخبون لفترات مؤقتة. عند التصويت على قرار مهم، يجب أن يصوّت 9 أعضاء على الأقل لصالحه، وألا يصوت أي من الأعضاء الدائمين ضده. إذا استخدم أحدهم الفيتو، يُرفض القرار مباشرة، بغض النظر عن عدد الأصوات المؤيدة.

الفيتو لا يُستخدم في “المسائل الإجرائية”، أي تلك التي تتعلق بطريقة تنظيم الاجتماعات أو الجدول الزمني لها. لكنه يُطبق فقط على “المسائل الموضوعية”، مثل إرسال قوات لحفظ السلام، فرض عقوبات، أو اتخاذ إجراءات عسكرية.

الآثار المترتبة على استخدام حق الفيتو

تعطيل القرارات المصيرية

من أبرز آثار الفيتو هو تعطيل قرارات حاسمة في أزمات إنسانية أو سياسية خطيرة، مثل سوريا، اليمن، أو فلسطين. عندما تستخدم دولة كبرى الفيتو لحماية حليفها، غالبًا ما يؤدي ذلك إلى استمرار النزاع وتعطيل جهود الوساطة أو التدخل الإنساني.

عدم المساواة بين الدول

حق الفيتو يُرسّخ مبدأ عدم المساواة داخل النظام الدولي، حيث يُعطى لدول بعينها قدرة لا تتمتع بها الأغلبية. هذا ما يجعل بعض النقاد يعتبرونه غير ديمقراطي، ويتنافى مع ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على المساواة في السيادة بين الدول.

تعزيز المصالح القومية

كثيرًا ما يُستخدم الفيتو ليس لخدمة السلم العالمي، بل لحماية مصالح قومية أو تحالفات سياسية. على سبيل المثال، استخدام الولايات المتحدة الفيتو لحماية إسرائيل يُنتقد بشدة باعتباره تسييسًا لحقوق الإنسان والعدالة الدولية.

محاولات إصلاح نظام الفيتو

تتكرر منذ عقود الدعوات إلى إصلاح نظام مجلس الأمن والحد من صلاحيات الفيتو. تشمل هذه الاقتراحات:

1. إلغاء الفيتو تمامًا: وهي فكرة تُواجه برفض شديد من الدول الخمس.

2. تقييد استخدامه في القضايا الإنسانية: اقتراح فرنسي–مكسيكي يدعو إلى الامتناع الطوعي عن استخدام الفيتو في الأزمات الإنسانية الكبرى.

3. إضافة أعضاء دائمين جدد: مثل ألمانيا، اليابان، الهند، أو دول إفريقية، لتعزيز التمثيل الجغرافي وتخفيف الاحتكار.

مع ذلك، كل هذه المقترحات تواجه عقبة جوهرية: تعديل ميثاق الأمم المتحدة يتطلب موافقة الدول الخمس نفسها، ما يجعل الإصلاح شبه مستحيل دون إجماع داخلي.

استخدامات الفيتو عبر العقود – جدول توضيحي

ملاحظات ختامية

حق الفيتو، على الرغم من كونه أداة تهدف إلى حفظ الاستقرار الدولي، إلا أنه أصبح في كثير من الأحيان أداة لفرض إرادات القوى الكبرى، وتعطيل قرارات عادلة. وبينما تستمر الأمم المتحدة في مواجهة أزمات عالمية معقدة، يبقى الفيتو حجر عثرة أمام تطلعات الشعوب في العدالة والحرية، ما يستدعي مراجعة حقيقية لمنظومة صنع القرار الدولي.

المصادر:

1. United Nations Security Council. Charter of the United Nations. https://www.un.org/securitycouncil

2. Global Policy Forum. Security Council Reform and the Use of the Veto. https://www.globalpolicy.org