دور الرجل في التربية قبل الإنفاق: رؤية شاملة لمسؤوليات الأسرة في ضوء القيم المجتمعية والتربوية

إن بناء المجتمعات لا يبدأ من الجامعات ولا من مراكز القرار، بل يبدأ من الأسرة، النواة الأولى التي تتشكل فيها شخصية الإنسان، وتتجلى فيها القيم والاتجاهات والسلوكيات. وفي صلب هذا الكيان الاجتماعي الحيوي، يُعَدّ الرجل أحد الركائز الأساسية التي تقوم عليها عملية التربية والتوجيه، وليس مجرد مصدر مادي للإنفاق وتوفير المتطلبات الحياتية. إن اختزال دور الرجل في الإنفاق فقط يُعدّ تجريدًا له من مسؤوليته الأسمى، وهي التربية، التي لا تقل أهمية عن دور الأم بل قد توازيه في بعض المراحل والمجالات.

أولاً: الإطار المفاهيمي لدور الرجل داخل الأسرة

تتعدد الأدوار التي يقوم بها الرجل داخل الأسرة، وتتنوع مسؤولياته بين المادية والمعنوية، النفسية والاجتماعية، والتربوية والقيادية. غير أن كثيراً من الثقافات المجتمعية المعاصرة ساهمت في تقديم صورة نمطية للرجل تختزله في كونه “المعيل” فقط، بينما توكل المهام التربوية بالكامل إلى المرأة. وهذا الفهم القاصر يتجاهل جوهر الأسرة كمنظومة تكاملية يُفترض أن يتشارك فيها الأب والأم الأدوار والمسؤوليات.

في هذا السياق، يجب التأكيد على أن التربية لا تعني فقط الرعاية الجسدية أو التهذيب السلوكي، بل تشمل تنمية القيم، وتعزيز الوعي، وتشكيل الهوية، وبناء الانضباط الذاتي، وغرس مفاهيم المسؤولية والمواطنة والانتماء. وكل هذه الجوانب تتطلب حضورًا فاعلًا للأب، لا مجرد وجوده المادي أو الرمزي.

ثانياً: مكانة الرجل التربوية في المرجعيات الدينية والاجتماعية

من منظور إسلامي، تُعدّ التربية من أولى المسؤوليات التي حُمل بها الرجل تجاه أسرته، ويتجلى ذلك في قول الله تعالى:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا” [التحريم: 6].

وفي هذا التوجيه الإلهي تأكيد على أن المسؤولية التربوية للأب لا تقتصر على الإنفاق، بل تشمل حماية الأسرة من الانحراف العقدي والسلوكي والأخلاقي، وهي مهمة تتطلب فقهًا، وصبرًا، ومتابعة، وتدخلاً مستمرًا.

أما في المجتمعات التقليدية، فقد كان الرجل هو المرجع الأول لأبنائه في شؤون الحياة والتجارب، وكان يُعَدّ قدوة تُحتذى، ومصدرًا للحكمة والخبرة والتوجيه. غير أن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة، أدّت إلى غياب الرجل عن البيت لساعات طويلة، مما أضعف صلته بالأبناء وأفقده الكثير من فعاليته التربوية.

ثالثاً: أهمية الحضور التربوي للأب في حياة الأبناء

تؤكد العديد من الدراسات النفسية والتربوية الحديثة أن دور الأب في التربية له تأثير بالغ في تشكيل شخصية الطفل، وخاصة في الجوانب التالية:

• تعزيز الثقة بالنفس: فوجود أب مشارك وداعم يُنمّي في الأبناء شعورًا بالأمان والاستقرار.

• التوازن الانفعالي: حيث يسهم الأب في تعليم أبنائه ضبط المشاعر وإدارة الغضب، خاصة للأولاد.

• تكوين صورة عن الرجولة السوية: يُعدّ الأب النموذج الأول الذي يستقي منه الابن ملامح الرجولة، ومن خلاله تتشكل مفاهيم الذكورة الصحية والمتزنة.

• التحصين الأخلاقي والسلوكي: إذ يُمكن للأب من خلال المراقبة والتوجيه والتدخل أن يقي أبناءه من الانحرافات التي تنتج عن الإهمال التربوي.

ومن خلال الحضور الفعلي في حياة الأسرة، يتسنى للأب غرس القيم الكبرى مثل الصدق، والعمل، والانضباط، والرحمة، والعدالة، وهي القيم التي لا يمكن تعليمها نظرياً أو عبر التوجيه اللفظي فقط.

رابعاً: مظاهر القصور في أداء الرجل التربوي

تتعدد مظاهر ضعف الحضور التربوي للأب داخل الأسرة، ويمكن إجمال أبرزها فيما يلي:

إن مثل هذه المظاهر، إذا استمرت، تؤدي إلى تراجع مكانة الأب في الأسرة، وتُفضي إلى اضطرابات نفسية وسلوكية لدى الأطفال، قد تمتد آثارها لعقود لاحقة.

خامساً: دور الأب في تربية الذكور والإناث

ينطوي دور الأب التربوي على أبعاد مختلفة حسب جنس الأبناء، ولا يعني ذلك التمييز، بل الفهم العميق لاختلاف الحاجات النفسية والسلوكية لكل فئة:

• في تربية الذكور: يمثل الأب النموذج الحي للرجولة، ويتعلم منه الابن كيف يكون مسؤولاً، وكيف يعبر عن مشاعره دون عدوانية، وكيف يُوازن بين الحزم والرحمة. كما يُمكن للأب أن يكون مدرباً لابنه على الاستقلال، وتحمل المسؤولية، والانخراط في الحياة العامة.

• في تربية الإناث: يمثل الأب مصدرًا للحماية والأمان، ومنه تتشكل لدى الفتاة أولى صور علاقتها بالرجل، فإذا كان حنوناً حاضراً داعماً، ترسخت لديها صورة إيجابية عن العلاقات العاطفية والاجتماعية السوية. أما في حال غيابه أو قسوته، فقد تسعى الفتاة لتعويض هذا الفراغ بطرق سلبية.

سادساً: التربية بالقدوة

من أعظم وسائل التربية التي يجب أن يضطلع بها الرجل داخل أسرته هي “التربية بالقدوة”، وهي أسلوب عميق الأثر، إذ لا يكفي أن يطالب الأب أبناءه بالصدق وهو يكذب، أو يحثهم على ضبط النفس وهو سريع الغضب. إن تصرفات الأب وسلوكياته اليومية تظل محفورة في ذاكرة الأبناء أكثر من ألف موعظة أو نصيحة. ومن هنا تأتي أهمية أن يُجسد الأب القيم التي يزرعها في أولاده في تعامله مع زوجته، ومع جيرانه، وفي عمله، وحتى في مواقفه عند الغضب أو الخلاف.

سابعاً: العلاقة بين التربية والإنفاق

على الرغم من أن الإنفاق مسؤولية أساسية للرجل، إلا أن اختزال دوره في هذه الزاوية فقط يُنتج أسرة هشة، وأبناء مفتقرين للهوية والاحتواء. فالتربية لا تتطلب فقط توفير الطعام والكساء والتعليم، بل تتطلب الاستثمار العاطفي، والحضور الذهني، والاهتمام اليومي.

ومما يلفت الانتباه أن كثيراً من الآباء يعتقدون أن تأمين الحاجات المادية يعفيهم من التزاماتهم التربوية، بينما في الحقيقة، إن غيابهم عن حياة أبنائهم النفسية والعاطفية يُعدّ تقصيراً قد تكون له كلفة أعلى بكثير من كلفة الإنفاق. فالأب الذي لا يحاور أبناءه، ولا يتعرف إلى مشاكلهم، ولا يخصص وقتًا للجلوس معهم، يُسهم بشكل غير مباشر في خلق فجوة خطيرة قد تملؤها مصادر غير آمنة كوسائل التواصل، أو الصحبة السيئة.

ثامناً: التربية الأبوية في عصر التكنولوجيا والانفتاح

لم تعد مسؤوليات الأب التربوية في العصر الحديث كما كانت في العقود السابقة، فقد دخلت مؤثرات جديدة على ساحة التنشئة، من أبرزها:

• وسائل التواصل الاجتماعي

• المحتوى الرقمي الموجه للأطفال

• التيارات الفكرية والثقافية المتعددة

وهذه العوامل تحتاج إلى تدخل تربوي أكثر وعيًا وتخطيطًا من الأب، فهو مطالب اليوم بامتلاك أدوات معرفية تُمكنه من فهم ما يستهلكه أبناؤه من محتوى، وتقييم تأثيره عليهم، ومساعدتهم على التفكير النقدي، وحمايتهم من الانحرافات الفكرية والأخلاقية. كما يحتاج الأب إلى أن يتعلم لغة الحوار الحديثة، والابتعاد عن الأساليب التسلطية في التربية، لصالح أساليب قائمة على الفهم والدعم والمرافقة.

تاسعاً: المعوقات التي تمنع الرجل من أداء دوره التربوي

رغم أهمية الدور التربوي للأب، إلا أن هناك العديد من العوائق التي تحد من فاعليته، منها:

• ثقافات مجتمعية تعتبر التربية حكرًا على الأم

• ضغط العمل وساعات الغياب الطويلة

• ضعف التكوين النفسي والمعرفي لبعض الآباء

• غياب الوعي بمخاطر الإهمال التربوي

• انعدام القدوة لدى بعض الرجال أنفسهم

هذه التحديات تحتاج إلى جهد مؤسسي ومجتمعي لإعادة تأهيل الصورة المتوازنة للرجل في الأسرة، عبر حملات توعوية، ومناهج تعليمية، ووسائل إعلام تقدم نماذج إيجابية للأب الحاضر والمربي.

عاشراً: توصيات عملية لتعزيز دور الرجل التربوي داخل الأسرة

• تخصيص وقت يومي للحوار مع الأبناء

• الانخراط في تفاصيل الحياة المدرسية والتربوية للأطفال

• مرافقة الأبناء في أنشطتهم وهواياتهم

• القراءة المستمرة في مجالات التربية النفسية والاجتماعية

• التعاون مع الأم دون صراع أدوار

• تقييم الأداء التربوي بشكل دوري

إن تحويل الأب إلى عنصر تربوي فاعل لا يتم بقرارات نظرية، بل بسلوك يومي، وخيارات واعية، وانخراط حقيقي في حياة الأسرة.

المصادر:

• عبد الكريم بكار، التربية الأسرية: رؤية واقعية ومعالجات عملية، دار القلم، 2018

• د. مصطفى أبو سعد، كيف تكون قدوة لأبنائك؟، مركز الفكر الإبداعي، 2012