شرح حديث (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)
يعد الحديث الشريف الذي رواه الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وأقلهم من يجوز ذلك”، من الأحاديث التي تتعلق بعمر الإنسان في هذه الدنيا وتعرض من خلاله بعض المفاهيم الفقهية والشرعية المرتبطة بالحياة والموت. هذا الحديث من الأحاديث التي أثارت الكثير من النقاشات الفقهية واللغوية بين العلماء والمفكرين، ويرتبط بفهم الإنسان لمفهوم الزمن من الناحية الشرعية.
سياق الحديث
جاء هذا الحديث في سياق تبشير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بحياة نسبية تكون بعيدة عن الظرف القاسي الذي عايشه الأنبياء في الأمم السابقة. فقد كانت أعمار الأنبياء في الأزمنة الماضية أطول بكثير من أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء الحديث ليبشر الأمة ببركة الوقت والعيش في هذه الفترة المحدودة. وتتناول الجملة التي وردت في الحديث قضية العمر الزمني ومدى صلاح هذا العمر لتحقيق العبادة والطاعة.
نص الحديث:
“أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وأقلهم من يجوز ذلك.”
رواه الترمذي (3552) وقال: حديث حسن غريب.
التفسير الدقيق للحديث
-
المعنى الظاهر:
الحديث يشير إلى أن أعمار المسلمين تتراوح غالبًا بين الستين والسبعين عامًا. هذه المدة الزمنية تُعتبر معيارًا لعدد كبير من أفراد الأمة، حيث إن معظم المسلمين يعيشون في هذه الفترة بين البداية والنهاية. وهذا يعني أن الله عز وجل قد جعل هذه الأعمار هي الأغلب في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
-
إشارة إلى البركة في الزمن:
قد يتساءل البعض عن سبب تحديد هذه الأعمار بين الستين والسبعين، حيث إن الأعمار تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان. من خلال الحديث، يظهر تأكيد أن الزمن مهما كان قصيرًا، إلا أن الله يبارك في أعمال الإنسان ويعطيه فرصة عظيمة للعمل الصالح في هذه المدة الزمنية. فالمسلم يستطيع في هذه الأعمار القصيرة أن يصلح نفسه، ويعمل للآخرة بما يُرضي الله تعالى. ولذلك، نجد أن العديد من العلماء يربطون بين هذه الأعمار والفرص التي يمنحها الله لعباده في هذه الحياة الدنيا لتحقيق أهدافهم الدينية والدنيوية.
-
عدم الخوف من العمر القصير:
يعتبر الحديث بمثابة تعزية للمسلمين الذين قد يشعرون بالحزن عندما يفكرون في قصر العمر، فقد يكون فيه نوع من التطمين. لأن العمر المقدر للإنسان ليس هو الأساس في تقييم حياته، بل الكيفية التي يعيشه بها. الأمر ليس متعلقًا بطول العمر بل بصلاحه، فالإنسان في عمره المحدود يمكنه أن يحقق أهدافًا كبيرة إذا كان صادقًا في عمله، مجتهدًا في عبادته، مستثمرًا في وقته بما يُرضي الله.
هل يشمل الحديث جميع الناس؟
إن الحديث لا يعني بالضرورة أن جميع أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستكون أعمارهم ضمن هذه الفئة الزمنية. بل هو بيان عام في الغالب، حيث إن هناك من يعيشون فترة أطول من ذلك أو أقل. فقد ورد في بعض الروايات الأخرى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدًا ما أحييتنا، ولا تجعل علينا ولا فينا ولا معنا شقيًا”. كما أن هنالك حالات استثنائية، كما في حالة بعض الأنبياء مثل نوح عليه السلام الذي عاش ما يقرب من ألف سنة.
ما هي الحكمة من تحديد هذا العمر؟
يتناول الحديث فكرة أن عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو في الغالب قصير مقارنة بالأمم السابقة، ولكن هذا القصر لا يعني أن الحياة غير مملوءة بالمعنى أو الخيرات. فقد كان لدى النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من العبر والحكمة في التعامل مع الزمن، ولا سيما في الحديث عن الصدقة والذكر والعمل الصالح. ولذلك، فإن الهدف من الحديث هو الدعوة إلى استثمار الوقت بالشكل الأمثل، وعدم إضاعة الفرص في الأمور غير النافعة. من هنا، تأتي الحكمة الإلهية التي تجعل هذه الفترة الزمنية المحدودة بمثابة فرصة كبيرة للتقرب إلى الله.
آراء العلماء في شرح الحديث
رغم أن الحديث جاء مبينًا عن تراوح الأعمار بين الستين والسبعين، فقد تباينت آراء العلماء في تفسير معانيه. فقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحديث يتحدث عن غلبة الأعمار في الأمة، ولا يعني بالضرورة أن جميع الأفراد سيعيشون في هذا النطاق، بل هو إشارة إلى المتوسط العام. فالله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر لكل شخص مدة حياته، وقد تكون أطول أو أقصر من هذا النطاق.
أما بعض العلماء الآخرين فقد رأوا أن الحديث يعتبر توجيهًا نحو تقليل الاهتمام بالمدة الزمنية التي يقضيها الإنسان في الدنيا، والتركيز بدلاً من ذلك على كيفية قضاء هذه المدة في الطاعة والعمل الصالح. فالعمر ليس هو المعيار الأساسي في حياة المسلم، بل هو الكيفية التي يعيش بها هذا الإنسان حياته.
العلاقة بين الحديث والعبادة
يعتبر هذا الحديث دافعًا كبيرًا للمسلم للتركيز على أهمية استثمار وقته في الأعمال الصالحة. فالعمر وإن كان محدودًا إلا أن للإنسان القدرة على جعل هذا الوقت ذا قيمة عالية من خلال العبادة، والصدق في التعامل مع الآخرين، والقيام بالأعمال الخيرية. وهذا ما يذكره القرآن الكريم في قوله: “وَلَا تَرْكُدُوا فِي الْأَرْضِ”، حيث يظهر في الآية حثٌّ على إتمام العمل بشكل جاد وعدم التفريط في وقت الإنسان.
كما أن الحديث ينبه المسلم إلى ضرورة الاستعداد للآخرة، حيث إن الوقت في الدنيا مهما طال فهو أقصر مما يبدو عليه، فالحياة يمكن أن تنتهي في أي لحظة، ولذلك فإن استثمار العمر في طاعة الله هو السبيل إلى نيل رضا الله والفوز في الآخرة.
تفسير فلسفي للحديث
من وجهة نظر فلسفية، يمكن اعتبار الحديث بمثابة دعوة إلى العيش في الحاضر وعدم الانشغال بالزمن بشكل مفرط. فالتركيز على المدة الزمنية التي يعيشها الإنسان قد يجعله ينسى أن الأهم هو ماذا يفعل في هذه الفترة المحدودة. ويدعو الحديث بذلك إلى التفكر في معنى الحياة الحقيقية والتي تتحقق في تحقيق الأهداف الروحية والإيمانية التي ترضي الله وتعود بالنفع على الفرد والمجتمع.
الخلاصة
يعد حديث “أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين” حديثًا يعكس طبيعة الحياة البشرية، ويوجه المسلمين إلى كيفية استثمار الوقت بطريقة تحقق الرضا الإلهي. مهما كانت الأعمار قصيرة أو طويلة، فإن الأهم هو كيفية عيش الإنسان لهذه الأعمار. وقد جاء هذا الحديث ليبث في نفوس المسلمين الأمل في إمكانية جعل حياتهم مليئة بالعمل الصالح والتقوى، حتى وإن كانت هذه الحياة محدودة.
