دريد لحام: رمز الفن السوري والعربي

المقدمة

دريد لحام، اسم ارتبط في الوجدان العربي بعقود من الفن الراقي، الكوميديا الهادفة، والمواقف السياسية الجريئة. إنه ليس مجرد ممثل، بل هو ظاهرة فنية وثقافية تركت بصمتها العميقة على الدراما والمسرح العربيين. من شخصية “غوار الطوشة” الساخرة إلى أدواره العميقة في السينما والمسرح، كان دريد لحام طوال مسيرته صوت الشعب وصورة الواقع، من خلال عدسته الكوميدية والدرامية الحادة.

وُلد دريد لحام في دمشق عام 1934، وتحوّل من أستاذ جامعي في الكيمياء إلى رمز فني لا يُضاهى في العالم العربي. كانت بدايته المتواضعة أساساً لانطلاقة كبرى أثرت على الأجيال المتعاقبة، ليس فقط في سوريا بل في كامل الوطن العربي. يعتبره كثيرون جزءاً من الهوية الثقافية السورية، ومثالاً على الالتزام الفني بقضايا الوطن والإنسان.

النشأة والتعليم

وُلد دريد لحام في حي الأمين بدمشق لعائلة فقيرة، ونشأ في بيئة شعبية انعكست فيما بعد في أعماله الفنية التي جسدت حياة المواطن العادي ومعاناته. درس في جامعة دمشق وتخرج في كلية الكيمياء، وعمل مدرساً في جامعة دمشق لبعض الوقت، ثم انتقل إلى التدريس في الجامعة السورية اللبنانية. غير أن شغفه الحقيقي كان في المسرح والتمثيل، ما دفعه إلى تغيير مسار حياته المهنية.

بداية المسيرة الفنية

بدأت مسيرة دريد لحام الفنية في الستينات من القرن العشرين، عندما انضم إلى التلفزيون السوري الناشئ آنذاك. كانت بدايته كمقدم لبرنامج منوعات بعنوان “منكم وإليكم والسلام عليكم”، ثم انتقل إلى التمثيل التلفزيوني. في هذه المرحلة التقى بالشاعر والكاتب السوري محمد الماغوط، وكانت هذه الشراكة بداية فصل جديد في المسرح السياسي والاجتماعي السوري.

لكن انطلاقته الحقيقية جاءت من خلال تعاونه مع الفنان نهاد قلعي، الذي شكل معه ثنائياً فنياً ناجحاً في سلسلة من الأعمال التي أصبحت من كلاسيكيات الدراما العربية، مثل “صح النوم” و”حمام الهنا”. وقد أدّى دريد لحام دور “غوار الطوشة”، الشخصية الساخرة التي أصبحت رمزاً للمواطن العربي الذكي والمشاكس في وجه الفساد والظلم.

غوار الطوشة: الشخصية التي تجاوزت الشاشة

شخصية “غوار الطوشة” ليست مجرد دور تمثيلي، بل تحوّلت إلى رمز شعبي يجسّد ذكاء الشارع السوري والعربي، وروحه المرحة الساخرة، وقدرته على المقاومة. شكّلت هذه الشخصية تحدياً للسلطة والواقع بطريقة غير مباشرة، من خلال الكوميديا السوداء التي كان دريد لحام يتقنها بإتقان.

كان غوار الطوشة يحاكي البسطاء، ويتحدث لغتهم، ويتفاعل مع قضاياهم اليومية، ما جعله مقبولاً ومحبوباً من مختلف الفئات الاجتماعية. وفي وقتٍ كانت فيه حرية التعبير محدودة، مثّلت شخصية غوار متنفساً للناس، ورسالة مبطّنة للسلطة.

التعاون مع محمد الماغوط: الثورة المسرحية

في سبعينيات القرن الماضي، التقى دريد لحام بالشاعر محمد الماغوط، وشكّلا معاً ثنائياً فنياً قلب المفاهيم المسرحية رأساً على عقب. كانت نتاج هذه الشراكة مجموعة من المسرحيات السياسية الجريئة التي طرحت قضايا الحرية، القمع، الفساد، وغياب العدالة الاجتماعية. من أبرز هذه المسرحيات:

• كاسك يا وطن: مسرحية نقدية اجتماعية سياسية تناولت انهيار القيم الوطنية واستبدالها بالولاء الأعمى للسلطة. واعتبرت واحدة من أكثر المسرحيات تأثيراً في تاريخ المسرح العربي.

• شقائق النعمان: مسرحية عالجت موضوع الانكسار العربي بعد نكسة 1967 بأسلوب فني راقٍ، جمع بين الدراما والكوميديا السوداء.

• غربة: إحدى أهم الأعمال المسرحية التي تناولت الصراع بين الوطن والمنفى، بين الحلم والواقع، وجسدت معاناة الإنسان العربي في الغربة داخل وطنه.

كانت هذه المسرحيات بمثابة نقد مباشر للأنظمة العربية، لكنها قُدمت في قالب ساخر مكنها من الوصول إلى الجمهور دون أن تُمنع فوراً، وهو ما يعكس براعة دريد لحام في التوازن بين الرسالة الفنية والرقابة.

السينما والتلفزيون: تنوع وغنى في الأداء

لم يقتصر حضور دريد لحام على المسرح، بل كان له دور بارز في السينما السورية والعربية. شارك في عدة أفلام من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، منها:

• الحدود (1984): فيلم سياسي ساخر من تأليف محمد الماغوط، تناول فيه دريد لحام معاناة المواطن العربي مع الحدود المصطنعة بين الدول العربية، وأداءه البيروقراطي الجاف.

• التقرير: فيلم تناول موضوع الرشوة والفساد الإداري.

• الليل: فيلم درامي حاز على جوائز دولية، شارك فيه بدور مختلف عن أدواره الكوميدية المعتادة.

في التلفزيون، استمر دريد لحام بتقديم أعمال توازن بين الكوميديا والدراما، مثل مسلسل عودة غوار الذي أعاد فيه طرح الشخصية الشهيرة بأسلوب يناسب التحولات السياسية والاجتماعية الجديدة في الوطن العربي، ومسلسل سنعود بعد قليل الذي مثّل فيه دور الأب المهاجر المتعلق بجذوره ووطنه.

المواقف السياسية والإنسانية

كان دريد لحام فناناً ملتزماً لم يتردد في اتخاذ مواقف سياسية وإنسانية واضحة. لطالما عبّر عن آرائه بخصوص فلسطين، ورفض التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، كما كان من أوائل الفنانين الذين قدموا الدعم للشعب اللبناني والفلسطيني في الحروب.

غير أن مواقفه السياسية خلال الأزمة السورية أثارت الجدل، إذ اتُّهم بمساندة النظام السوري في وجه الانتفاضة، ما سبّب انقساماً حاداً بين مؤيديه ومعارضيه. وقد صرّح في أكثر من مناسبة أن موقفه ينبع من خوفه على وحدة البلاد، وأنه يرفض التدخلات الخارجية وتفتيت سوريا.

الجوائز والتكريمات

حاز دريد لحام على العديد من الجوائز والتكريمات المحلية والدولية تقديراً لمسيرته الفنية الاستثنائية. ومن بين أهم هذه الجوائز:

التأثير الثقافي والاجتماعي

تجاوز تأثير دريد لحام حدود الفن إلى التأثير الاجتماعي والثقافي، فقد شكلت أعماله مرآة للواقع العربي، ووسيلة لفهم التحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بها المنطقة. أسلوبه الكوميدي الساخر لم يكن مجرد وسيلة للترفيه، بل كان أداة تحليل ونقد اجتماعي حاد.

لعبت شخصيته الفنية دوراً في تشكيل الوعي الجمعي لدى الجمهور العربي، وساهمت في زرع فكرة أن للفن رسالة، وأن الممثل الحقيقي لا يلهو فقط، بل يعبّر عن قضايا أمته. لذلك، كان تأثيره كبيراً على أجيال من الفنانين والمثقفين الذين اعتبروه قدوة ومصدر إلهام.

دريد لحام في ذاكرة الأجيال

ظل دريد لحام لعقود يحتل مكانة خاصة في قلوب العرب، نظراً إلى بساطته، وموهبته الفذة، والتزامه بقضايا الناس. لم يكن فناناً نجمياً بمعايير الشهرة الحديثة، بل كان وجهاً مألوفاً في كل بيت، وصوتاً صادقاً في زمن كثر فيه التزييف.

أجيال متعاقبة نشأت على ضحكاته، تعلمت من حواراته، وشاركت آلامه وآماله. سواء في “صح النوم”، أو “كاسك يا وطن”، أو “الحدود”، لم يكن دريد لحام مجرد ممثل يعتلي خشبة المسرح أو يظهر على شاشة التلفاز، بل كان جزءاً من وجدان الناس، وجزءاً من ذاكرتهم الجمعية.

الإسهام في الثقافة العربية

أسهم دريد لحام في تطوير المسرح العربي والدراما التلفزيونية بشكل كبير، وجعل من الفن وسيلة للنقد البنّاء والتعبير الحر. استطاع أن يوظف الكوميديا لتوصيل رسائل عميقة، وأثبت أن الضحك لا يعني الهروب من الواقع بل مواجهته بجرأة ووعي.

كما ساهمت أعماله في ترسيخ اللهجة السورية في الإعلام العربي، وكان من أوائل من استخدموا اللهجة المحلية في المسرح والدراما، ما ساعد في نقل الثقافة السورية إلى المحيط العربي بطريقة سلسة وحقيقية.

الخاتمة

يُعد دريد لحام أحد أعمدة الفن العربي، ورمزاً من رموز الثقافة السورية المعاصرة. مسيرته التي تجاوزت ستة عقود كانت غنية بالأعمال التي ستظل خالدة في وجدان الشعوب. لم يكن فنه مجرد أداء، بل كان انعكاساً لهموم الناس وأحلامهم، ومعبرًا عن الأمل والحرية في وجه القمع والفساد.

لقد استطاع أن يوحّد بين البساطة والعمق، بين الضحك والبكاء، بين الكلمة والموقف، ليصنع تجربة فنية فريدة يصعب تكرارها. وسيظل دريد لحام، مهما اختلفت الآراء حول مواقفه، رمزاً للفن الملتزم الذي يحترم عقل الإنسان ويمجد كرامته.

المصادر:

1. المؤسسة العامة للسينما السورية

2. لقاءات دريد لحام الصحفية في أرشيف جريدة الحياة ومجلة العربي