خطر التهاون بالمعاصي

التهاون بالمعاصي: خطره وآثاره المدمرة على الفرد والمجتمع

إن التهاون بالمعاصي من أخطر الظواهر السلوكية والأخلاقية التي تصيب الأفراد والمجتمعات على مر العصور، وقد بات هذا التهاون في عصرنا الحاضر أكثر استفحالاً، مع ازدياد المغريات وتكاثر وسائل الانشغال عن ذكر الله، وانتشار ثقافة التبرير والتسويغ للذنوب والمعاصي تحت مسميات مغلوطة كـ”الحرية الشخصية” أو “الانفتاح الفكري”. وقد حذّر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مراراً وتكراراً من الاستهانة بالمعصية، لما لها من آثار كارثية على القلب، والدين، والدنيا، والمآل في الآخرة.

أولاً: تعريف التهاون بالمعاصي

التهاون بالمعاصي هو استصغار الذنوب والاستهانة بها، وعدم استشعار خطورتها أو الحذر من عواقبها، سواء كانت هذه المعاصي في القول أو الفعل أو الاعتقاد. ويشمل التهاون مظاهر متعددة، كالإصرار على المعصية، أو عدم الاستغفار والتوبة بعدها، أو عدم الإنكار لها في النفس أو من الغير، بل وقد يصل الأمر ببعض الناس إلى تبرير المعصية أو حتى المجاهرة بها.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار”. وهذا التشبيه النبوي يعكس خطورة استهانة الإنسان بمعصية ربه، فإن من رأى المعصية صغيرة، دل ذلك على ضعف إيمانه وبلادة إحساسه بقبح الذنب.

ثانياً: الأسباب المؤدية إلى التهاون بالمعاصي

1. ضعف الإيمان

السبب الجوهري وراء التهاون بالمعاصي هو ضعف الإيمان في القلب، فكلما ضعف الإيمان قلّ تعظيم الله تعالى في قلب العبد، وضعُف وازع الخوف من الله والرجاء في رحمته، ما يجعل العبد مستهيناً بما يرتكب من مخالفات.

2. طول الأمل ونسيان الآخرة

من أبرز أسباب الغفلة عن خطورة الذنب، طول الأمل في الحياة الدنيا، ونسيان الموت والوقوف بين يدي الله تعالى، فالذي يظن أنه سيعيش طويلاً قد يُرجئ التوبة، وقد يؤجل المحاسبة، مما يجعله يقع في الذنوب تلو الذنوب دون رادع.

3. كثرة الذنوب وتراكمها

الذنب إذا لم يُتب منه، صار طبقة سوداء على القلب، كما قال النبي ﷺ: “إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه”، وهذا هو “الرّان” الذي ذكره الله في قوله: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

4. الصحبة السيئة

من خالط أهل الغفلة ورافَق المستهينين بالمعاصي، أصيب بعدواهم، فإن الطبع يُسرَق، والقلب يلين لما يرى ويسمع، وقلَّ من يسلم من تأثير البيئة المحيطة.

5. غياب التذكير والموعظة

حين يقلّ في المجتمع العلماء والوعاظ، وتندر حلقات الذكر والتدبر في القرآن، تضعف صلة الناس بالآخرة، ويصبح الذنب أمراً عادياً، لا يُستشعر خطره ولا يُنكَر وجوده.

ثالثاً: الآثار المدمرة للتهاون بالمعاصي

1. قسوة القلب وموته

من أعظم آثار التهاون بالمعاصي قسوة القلب، وهي آفة إذا حلت بالعبد أغلقت عليه أبواب الخير، وجعلته لا يتأثر بالمواعظ، ولا يخشع في الصلاة، ولا يحس بمرارة الذنب أو لذة التوبة. قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ﴾.

2. الحرمان من التوفيق

المعصية قد تكون سبباً مباشراً في حرمان العبد من التوفيق إلى الطاعة، فكم من إنسان حُرم من قيام الليل بسبب ذنب أصرّ عليه، وكم من طالب علم أُغلق عليه الفهم والبركة بسبب معصية لم يتب منها.

3. العقوبات الدنيوية

كثير من البلايا التي تقع في المجتمعات إنما سببها الذنوب، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾. والذنوب سبب لزوال النعم وحلول النقم، وانقطاع الغيث، وظهور الفساد في البر والبحر، كما ورد في قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾.

4. استحقاق العذاب الأخروي

المعصية التي لا يتوب منها صاحبها قد تكون سبباً في غضب الله عليه ودخوله النار. وإذا اجتمع الإصرار مع المجاهرة والتبرير، كان الخطر أعظم، لأن الله لا يُخدع، والعبد مأمور بالتوبة قبل أن تُغلق أبوابها.

5. انعدام الحياء من الله والناس

التهاون بالذنب يؤدي إلى سقوط الحياء، والحياء شعبة من شعب الإيمان، ومن فقد الحياء وقع في الفجور والمجاهرة، كما في الحديث: “إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت”.

رابعاً: مظاهر التهاون بالمعاصي في الواقع المعاصر

– التساهل في النظر إلى المحرمات

كثير من الناس بات ينظر إلى الصور الخليعة والمشاهد المحرمة في الشاشات والهواتف ولا يشعر بأي ذنب أو حرج، بل وقد يتفاخر بذلك بين أقرانه، في استخفاف صارخ بأمر الله.

– الغيبة والنميمة في المجالس

بات الحديث عن الناس وانتقادهم أو نشر أخبارهم الخاصة أمراً عادياً في المجالس والمنصات، دون مراعاة لحدود الشرع أو أدنى شعور بخطيئة ذلك.

– تأخير الصلاة أو تركها

من مظاهر الاستهانة بالمعاصي التهاون بالصلاة، وهي ركن الدين، ومن تركها فقد كفر كما قال بعض العلماء، ومع ذلك فإن كثيراً من الناس اليوم لا يصلون، أو يؤخرونها عن وقتها بلا عذر.

– التعامل بالربا

كثير من الناس يدخل في المعاملات الربوية وهو يعلم، ويبرر ذلك بأنها حاجة أو مصلحة، وهو ما يعد استخفافاً بحدود الله التي نهى عنها بشدة.

خامساً: وسائل الوقاية والعلاج من التهاون بالمعاصي

سادساً: نظرة العلماء والسلف إلى خطورة الذنب

لقد كان السلف الصالح شديدي الحذر من المعصية مهما صغرت، وكانوا يخافون منها أشد من خوفنا من الذنوب العظيمة. قال بلال بن سعد: “لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت”، وقال الإمام أحمد بن حنبل: “إذا رأيت الناس مقبلين على المعاصي فاعلم أنهم محرومون من الطاعة”. وكان الفضيل بن عياض يقول: “إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم، قد كبلتك الذنوب”.

سابعاً: أهمية الإنكار والنهي عن التهاون بالمعاصي

على المؤمن أن لا يكتفي بتزكية نفسه، بل يجب عليه أن يكون مُصلحاً في مجتمعه، يُنكر المعاصي بالحكمة والموعظة الحسنة، ويُحذر من التهاون بها، فإن ترك النهي عن المنكر سبب لغضب الله تعالى، كما في قوله: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ… كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾.

خاتمة

التهاون بالمعاصي باب واسع من أبواب الهلاك إن لم يُغلق بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله. فكل معصية وإن صغرت، إذا استصغرها العبد صغرت في عينه عظمة الله، وإذا صغرت عظمة الله في قلبه ضاعت منه خشية الله، وإذا ضاعت الخشية، فسدت النفس، وخرب القلب، وانطفأ نور الهداية. والنجاة كل النجاة في المسارعة إلى التوبة، ومجالسة الصالحين، ومحاسبة النفس قبل أن تُحاسَب.

المراجع:

1. ابن القيم، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، تحقيق: علي بن حسن.

2. ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم.