المقدمة
يحتل أبو هريرة رضي الله عنه مكانة عظيمة في الصحابة من حيث حفظه ونقله لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان ملازماً له معظم وقته بعد إسلامه، ومن أكثر الصحابة روايةً للحديث الشريف. ومن هنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يولي أبا هريرة اهتمامًا خاصًا، لما رآه فيه من إخلاص في طلب العلم، وحبٍ لنقل السنة، وحرصٍ على تبليغها. وقد جاءت عدة وصايا نبوية خص بها النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة، جمعت بين أصول السلوك، والعبادة، والإيمان، والورع، والتربية القلبية، والاهتمام بالآخرة. في هذا المقال سنستعرض هذه الوصايا بالتفصيل، ونفصل في معانيها، ودلالاتها، ومقاصدها، ونربط بينها وبين المنهج النبوي الشامل في تربية الأفراد والمجتمع.
الفصل الأول: لمحة عن أبي هريرة ومكانته في الإسلام
نسبه وإسلامه
أبو هريرة، واسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي، من قبيلة دوس في اليمن. أسلم في السنة السابعة للهجرة، وقدم المدينة المنورة في عهد خيبر، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته.
ملازمته للنبي
لازم أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة، وكان من أهل الصفة، وهم فقراء المهاجرين الذين كانوا يقيمون في المسجد النبوي. وقد استفاد من ملازمته للنبي فائدة عظيمة في تلقي الحديث، حتى صار من أكثر الصحابة روايةً للسنة.
كثرة روايته للحديث
بلغت أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه أكثر من 5000 حديث، وروى عنه عدد كبير من التابعين والعلماء، وكان حريصًا على نقل كل ما يسمعه عن النبي بدقة وأمانة.
الفصل الثاني: الوصايا النبوية لأبي هريرة – دراسة حديثية
فإن أبا هريرة رضي الله عنه كان من المكثرين في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم حديثا خاصا يحوي جملة خاصة من الوصايا في الدنيا والآخرة، إلا أنه ثبتت عدة أحاديث متفرقة تحوي جملة من الوصايا، فمنها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام.
وروى ابن ماجه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يغرس غرسا فقال: يا أبا هريرة: ما الذي تغرس؟ قلت: غراسا لي، قال: ألا أدلك على غراس خير لك من هذا؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة. قال الشيخ الألباني: صحيح.
وروى ابن ماجه وأبو يعلى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة: كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب. قال الشيخ الألباني: صحيح.
وروى عبد الرزاق وأحمد عنه أنه قال: كنت أمشي مع رسول صلى الله عليه وسلم في نخل لبعض أهل المدينة فقال: يا أبا هريرة: هلك المكثرون إلا من قال كذا وكذا وهكذا وهكذا، وقليل ما هم، ثم مشى ساعة ثم قال: يا أبا هريرة: ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ولا ملجأ من الله إلا إليه. قال: ثم مشى ساعة فقال: يا أبا هريرة: هل تدري ما حق الله على الناس وما حق الناس على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فإذا فعلوا ذلك فحق على الله أن لا يعذبهم. قال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير كميل بن زياد.
وروى الطبراني عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة: إذا توضأت فقل: بسم الله والحمد لله، فإن حفظت لا تبرح تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير وإسناده حسن.
والله أعلم.
1. وصية الثلاث: الصيام والضحى والوتر
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
«أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام».
دلالة الوصية:
-
صيام ثلاثة أيام من كل شهر: سنة نبوية عظيمة، تُكسب العبد أجر صيام الدهر.
-
صلاة الضحى: عبادة نافلة عظيمة تغرس النور في القلب، وهي شكرٌ على نعمة الأعضاء.
-
الوتر قبل النوم: دليل على حرص النبي على ضمان أداء الوتر، خصوصاً لمن لا يثق أن يستيقظ في آخر الليل.
2. وصية الذكر: غراس الجنة
روى ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
«يا أبا هريرة: ألا أدلك على غراس خير لك من هذا؟ قال: بلى، قال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة».
تحليل المعنى:
-
هذه الوصية تُظهر أن ذكر الله يفوق النفع الدنيوي المادي.
-
غرس الأشجار في الجنة رمزية للعمل الصالح الدائم الأثر.
-
تربية على استثمار الوقت في الآخرة لا الدنيا فقط.
3. وصية الورع والقناعة والإحسان
روى ابن ماجه وأبو يعلى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
«يا أبا هريرة: كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلمًا، وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب».
التوجيهات الخمس:
-
الورع: أساس العبادة الصادقة.
-
القناعة: باب من أبواب الشكر والرضا.
-
حب الخير للغير: ميزان الإيمان الحقيقي.
-
الإحسان للجوار: علامة المسلم الخلوق.
-
التحذير من كثرة الضحك: توجيه للحفاظ على خشوع القلب.
4. وصية لا حول ولا قوة إلا بالله: كنز الجنة
روى عبد الرزاق وأحمد عنه:
«يا أبا هريرة، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
تفسير الوصية:
-
الذكر فيه تسليم تام لعظمة الله، وافتقار للعبد.
-
يعتبر من الأذكار التي تزيل الهمّ، وتحقق التوكل الكامل.
-
وُصف بأنه “كنز” لما فيه من عمق عقائدي، ومعنى إيماني.
5. وصية التوحيد: حق الله وحق العباد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يا أبا هريرة، هل تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟… قال: حق الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا».
أبعاد العقيدة:
-
توحيد الله هو جوهر الدين.
-
هذا الحديث يبرز عدل الله ورحمته معًا.
-
يرسخ معنى النجاة بالصدق في العبادة والتوحيد.
6. وصية الوضوء وذكر الله
روى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«يا أبا هريرة، إذا توضأت فقل: بسم الله والحمد لله…».
أهمية الذكر أثناء الطهارة:
-
الذكر يجعل الوضوء عبادة لا عادة.
-
كثرة الحسنات في مدة الطهارة تدل على فضل الذكر.
-
تعليم تربوي عملي يربط الطهارة بالجنان.
الفصل الثالث: دلالات الوصايا النبوية وتكاملها
جمع بين العبادة والتزكية
كل وصية من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة تجمع بين العبادات الظاهرة كالصلاة والصيام، والعبادات الباطنة كالتقوى، والورع، والتوكل، والقناعة، وحسن الجوار.
توازن بين الدنيا والآخرة
لم تكن الوصايا انصرافًا كليًا عن الحياة، بل كانت توازنًا حكيمًا يجعل القلب متصلاً بالله، والعقل مشغولًا بالآخرة، والجوارح عاملة في الخير.
خطاب تربوي فردي
النبي خاطب أبا هريرة بما يناسب حاله، اهتمامه، قدراته، وروحه، ما يعكس أن التربية النبوية كانت موجهة وواعية بخصوصية كل شخص.
الفصل الرابع: أثر هذه الوصايا على أبي هريرة وحياته
التزامه بالوصايا
كان أبو هريرة حريصًا على تطبيق وصايا النبي؛ فقد ورد عنه أنه كان لا يترك صيام ثلاثة أيام، وقيام الليل، وذكر الله، والعمل بما أُمر به.
أثرها في علمه ودعوته
انتقل هذا الأثر في أحاديثه، فقد كان يحث الناس على الصلاة، الذكر، حب الناس، والورع، وكلها نابعة من تربية النبي له.
أثرها في سلوكه
كان مثالاً للزهد، والرضا، والتواضع، والعبادة، والرحمة بالخلق، مما جعله مرجعًا ومربيًا للتابعين.
الفصل الخامس: تطبيقات عملية للوصايا في واقعنا
| الوصية النبوية | التطبيق في العصر الحديث |
|---|---|
| صيام 3 أيام شهريًا | تنظيم صيام الأيام البيض والحرص على التوازن الصحي والنفسي |
| صلاة الضحى | تخصيص وقت يوميًا للعبادة الفردية والسكينة الروحية |
| الوتر قبل النوم | المحافظة على طهارة القلب قبل النوم والدعاء الشخصي |
| لا حول ولا قوة إلا بالله | اللجوء إلى الله في الأزمات والمحن، وتربية النفس على التوكل |
| القناعة والورع | مقاومة ثقافة الاستهلاك والترف في المجتمع المعاصر |
| الإحسان للجيران | نشر الوعي الاجتماعي بأهمية العلاقات الطيبة والتعاون |
| الذكر أثناء الطهارة | تحويل الطقوس اليومية إلى عبادات عبر الذكر والنية |
الخاتمة
إن الوصايا النبوية التي خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه ليست مجرد توجيهات، بل هي منهاج تربوي شامل يمزج بين الإيمان والسلوك، العبادة والمعاملة، الذكر والعمل، الفرد والمجتمع، الدنيا والآخرة. لقد أثرت هذه الوصايا في شخصية أبي هريرة، فكان أنموذجًا للصحابي المتعبد، الورع، العالم، الداعي، الناقل لأحاديث رسول الله، والمبلغ لأمته. وهي وصايا تبقى حية، نابضة، صالحة لكل زمان ومكان، تصلح الفرد وتبني الأمة. فطوبى لمن تلقاها بروح أبي هريرة، وعاش بها منهجًا وأسلوبًا.
المراجع:
-
صحيح البخاري – كتاب الصيام، كتاب الوتر.
-
صحيح مسلم – كتاب صلاة المسافرين، كتاب الذكر.
- موقع إسلام ويب
-
سنن ابن ماجه – كتاب الأدب، كتاب الزهد.
-
مسند الإمام أحمد.
-
المعجم الصغير للطبراني.
-
تحقيقات الشيخ الألباني – صحيح الجامع.
-
شعيب الأرناؤوط – تحقيقات مسند أحمد.
