خرافات شائعة عن التوتر النفسي

معتقدات خاطئة عن التوتر النفسي

التوتر النفسي، مفاهيم مغلوطة وآثاره على الصحة النفسية والجسدية

في خضم الحياة العصرية المتسارعة، أصبح التوتر النفسي جزءاً لا يتجزأ من التجربة الإنسانية اليومية، سواء على مستوى العمل، أو العلاقات، أو حتى في التفاعل مع متغيرات البيئة المحيطة. ورغم كثرة الحديث عن التوتر وتأثيراته، إلا أن المفاهيم المغلوطة والمعتقدات الخاطئة المتعلقة به ما تزال متجذّرة في أذهان كثيرين، مما يساهم في تفاقم الأعراض بدلاً من معالجتها أو الوقاية منها.

في هذا المقال، سيتم تسليط الضوء على أبرز المعتقدات الخاطئة حول التوتر النفسي، وكيفية تصحيحها بناءً على ما توصلت إليه الأبحاث العلمية والنظريات النفسية الحديثة، مع بيان الآثار السلبية لهذه المعتقدات إن تُركت دون تصحيح، وتأثيرها على الفرد والمجتمع.

أولاً: الاعتقاد بأن التوتر النفسي دائماً أمر سلبي

من أكثر المعتقدات الخاطئة شيوعاً أن التوتر النفسي هو دائماً أمر سلبي وضار، ويجب القضاء عليه تماماً. لكن الواقع العلمي يبين أن التوتر بحد ذاته ليس بالضرورة مدمراً؛ بل يمكن أن يكون محفزاً إيجابياً في بعض الحالات. التوتر الإيجابي، أو ما يُعرف بالتوتر التحفيزي (Eustress)، هو الذي يدفع الإنسان إلى الأداء الأفضل، واتخاذ قرارات مصيرية، ومواجهة التحديات بكفاءة أعلى.

إن التوتر يصبح سلبياً فقط عندما يتجاوز حدود التحمل أو يستمر لفترات طويلة دون تفريغ أو تعامل صحي. بمعنى آخر، الفهم السليم للتوتر يفرض علينا التمييز بين التوتر المؤقت الذي يحفّز النمو، والتوتر المزمن الذي يؤدي إلى الإرهاق والاحتراق النفسي.

ثانياً: التوتر النفسي يصيب الضعفاء فقط

من بين الأفكار المغلوطة الشائعة، الاعتقاد بأن الأشخاص الذين يعانون من التوتر هم أشخاص ضعفاء نفسياً أو عاطفياً. هذا المفهوم يحمل بُعداً من الوصم الاجتماعي، ويثني العديد من الأفراد عن طلب المساعدة عند الحاجة، خوفاً من النظرة السلبية المحيطة بالاضطرابات النفسية.

الحقيقة أن التوتر النفسي قد يصيب أي شخص، بغض النظر عن قوته العقلية أو قدراته الشخصية. فهو استجابة طبيعية للجسم والعقل تجاه ضغوط الحياة المختلفة. بل إن الأشخاص الأقوياء أو الطموحين قد يكونون أكثر عرضة للتوتر، نظراً لتعدد مسؤولياتهم وارتفاع سقف توقعاتهم الذاتية.

ثالثاً: ممارسة الاسترخاء كافية لعلاج التوتر

يعتقد البعض أن مجرد ممارسة بعض تمارين التنفس أو الاسترخاء، كالتأمل أو اليوغا، تكفي لعلاج التوتر بشكل كامل. رغم أن هذه الأساليب مفيدة للغاية، إلا أن الاعتماد الحصري عليها دون معالجة الأسباب الجذرية للتوتر قد يكون حلاً سطحياً وقصير المدى.

التعامل الفعال مع التوتر يتطلب منهجاً شاملاً يجمع بين المهارات النفسية المعرفية، وتحسين نمط الحياة، والتعامل مع مصادر الضغط بطرق واقعية وفعالة. فمثلاً، لا يمكن لتقنيات التنفس أن تُصلح خللاً في بيئة العمل السامة، أو تحل مشكلات العلاقات العائلية المتأزمة دون تدخلات أعمق.

رابعاً: التوتر لا يسبب أمراضاً عضوية

يظن البعض أن التوتر النفسي يؤثر فقط على الجانب العاطفي والنفسي، دون أي تأثير عضوي ملموس. لكن العلم أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن التوتر المزمن يمكن أن يساهم في ظهور أمراض عضوية خطيرة مثل:

هذه العلاقة التداخلية بين النفس والجسد تجعل من الضروري التعامل مع التوتر كعامل صحي رئيسي، وليس مجرد انزعاج عابر.

خامساً: تجاهل التوتر يساعد على التغلب عليه

يؤمن البعض بأن أفضل طريقة للتعامل مع التوتر هي بتجاهله، أو “عدم التفكير فيه”. هذا النهج قد يؤدي إلى تفاقم الوضع لا تحسينه. التوتر الذي لا يُعالج بشكل مباشر قد يتحول إلى مشكلات مزمنة مثل اضطرابات النوم، الاكتئاب، أو حتى الإدمان.

الوعي بوجود التوتر والاعتراف به هو الخطوة الأولى نحو معالجته. استخدام آليات إنكار الضغط النفسي أو كبته قد يؤدي إلى انفجارات عاطفية غير متوقعة في المستقبل، وقد يعرقل التواصل الصحي مع الآخرين.

سادساً: من يعاني من التوتر يجب أن يعزل نفسه

من الأفكار المغلوطة أن الشخص المتوتر بحاجة إلى العزلة التامة عن الناس ليتمكن من استعادة توازنه. في بعض الأحيان، قد يكون الانعزال المؤقت مفيداً للهدوء وإعادة التقييم، ولكن على المدى الطويل فإن الدعم الاجتماعي من الأسرة، الأصدقاء، أو المختصين يعد عاملاً أساسياً في تخفيف آثار التوتر.

تشير الدراسات النفسية إلى أن الأفراد الذين يتمتعون بشبكة دعم اجتماعي قوية يكونون أكثر قدرة على التكيف مع الضغوط النفسية، ولديهم فرص أقل للإصابة بالاكتئاب أو القلق المزمن.

سابعاً: التوتر لا يصيب الأطفال أو المراهقين

هناك اعتقاد واسع الانتشار بأن الأطفال والمراهقين لا يعانون من التوتر مثل البالغين، لغياب المسؤوليات المالية أو المهنية. هذا المفهوم خاطئ تماماً، إذ أن الضغوط النفسية لدى هذه الفئة قد تكون ناتجة عن مشاكل دراسية، تنمر، علاقات أسرية متوترة، أو توقعات مرتفعة من المحيطين.

إهمال مظاهر التوتر لدى الأطفال قد يؤدي إلى آثار بعيدة المدى، مثل صعوبات التعلم، مشكلات في السلوك، وانخفاض الثقة بالنفس. من الضروري مراقبة مؤشرات التوتر لدى الأطفال والتفاعل معها بأساليب تربوية علمية مناسبة.

ثامناً: تناول الطعام أو التدخين يساعد على تخفيف التوتر

يلجأ بعض الأشخاص إلى الأكل المفرط أو التدخين ظناً منهم أنهما وسائل فعالة لتخفيف التوتر. رغم أن هذه العادات قد توفر شعوراً مؤقتاً بالراحة، إلا أنها تؤدي في النهاية إلى الإضرار بالصحة العامة، وتزيد من احتمالية الإدمان أو الإصابة بالسمنة وأمراض الجهاز التنفسي.

الأفضل هو اعتماد وسائل صحية كالمشي، ممارسة الرياضة، أو ممارسة الهوايات، والتي أثبتت فاعليتها في التخفيف من التوتر بشكل مستدام.

تاسعاً: الشخص لا يحتاج إلى مساعدة نفسية إلا إذا انهار

يعتقد البعض أن اللجوء إلى الطبيب أو المعالج النفسي يجب أن يكون فقط عند الوصول إلى الانهيار التام، أو حين تصبح الأعراض غير محتملة. هذه الفكرة تكرس ثقافة التأجيل والخوف من وصمة الصحة النفسية.

الحقيقة أن الدعم النفسي يمكن أن يكون وقائياً، يساعد في التعامل مع الأزمات قبل أن تتفاقم. الاستشارة النفسية ليست دليلاً على الضعف، بل على وعي الفرد وحرصه على الحفاظ على توازنه العقلي والنفسي.

عاشراً: التوتر لا يُعالج إلا بالأدوية

الاعتقاد بأن التعامل مع التوتر يحتاج إلى أدوية مهدئة فقط، هو من أخطر المعتقدات. الأدوية قد تكون مفيدة في بعض الحالات القصوى وتحت إشراف طبي، لكن العلاج السلوكي المعرفي، وتعديل نمط الحياة، وتعلّم مهارات المواجهة هي حلول أكثر استدامة وفعالية.

إدارة التوتر تعتمد على تبني أسلوب حياة متوازن يتضمن تغذية صحية، تنظيم النوم، تحسين العلاقات، وتطوير المهارات الذاتية في التحكم بالعواطف والانفعالات.

خاتمة تحليلية

إنّ التوتر النفسي بحد ذاته ليس المشكلة، بل تكمن المشكلة في طريقة تعاملنا معه، وفي المفاهيم الخاطئة التي نحملها حوله. تصحيح هذه المعتقدات لا يسهم فقط في التخفيف من معاناة الفرد، بل ينعكس إيجابياً على الصحة العامة، جودة الحياة، والإنتاجية المجتمعية. فالفهم العلمي الصحيح للتوتر ومصادره وطرق التعامل معه هو أولى خطوات الوقاية والعلاج في آنٍ واحد.

المراجع:

1. American Psychological Association. “Stress: The Different Kinds of Stress.” www.apa.org.

2. Sapolsky, R.M. (2004). Why Zebras Don’t Get Ulcers. Henry Holt and Company.