حماية من الحسد: أم سبع عيون في التراث العراقي

في الأراضي العراقية، يتجلى التمسك بالتراث الاجتماعي من خلال ظاهرة فريدة تعرف باسم “أم سبع عيون”، التي تشكل تجسيداً للحماية والتصدي لظاهرة الحسد. إن “أم سبع عيون” ليست مجرد قطعة فنية أو زخرفة، بل هي تراث مادي يعبر عن تفاعل المجتمع مع قضاياه الروحية والخلقية. تعكس هذه الظاهرة الاعتقاد العميق في فعالية الحماية من سلبيات الحسد والعين الحاقدة.

الظاهرة تتجسد في قطعة دائرية مصنوعة من مادة البورگ، تحمل سبعة ثقوب تُمثل العيون السبعة. ويتم تعليقها بواسطة حلقة سلكية على الجدران، حيث تتميز بلون أزرق معتقداً بأن هذا اللون يمتص الأشعة الضارة المنبعثة من عين الحاسد ويبددها. تمثل هذه العملية الرمزية إيماناً بأن الحسد يتجزأ ويفقد فعاليته عند تشتته، وبالتالي يصبح عاجزاً عن إلحاق الأذى.

يعود أصل هذا الاعتقاد إلى فترة الحضارة البابلية، حيث كان البابليون يرتبطون بقصورهم وساحاتهم بهذه التعويذة، مؤمنين بأن الحسد ينطلق كشعاع يتفرع إلى سبعة أقسام، فتجعل هذه العيون السبعة الحسد غير فعال وتبتعد عن الناس. ومع توسع دائرة الإسلام، أقرت الظاهرة بالحسد، واستمرت في تجسيد التراث الشعبي.

تتنوع أشكال “أم سبع عيون” بتصاميم مختلفة، إلا أن الهدف الرئيسي هو تجنب الحسد. يظهر ذلك في تصميمها ككف تحمل عيناً ملونة بالأزرق، أو دائرة داخل دائرة تنتهي بنقطة سوداء، مما يعزز فكرة تشتت الحسد وعدم قدرته على الإلحاق بأذى.

رغم أن هذه العادات والتقاليد تعود إلى الزمن القديم، إلا أن العلم الحديث قد وفر تفسيرات علمية لها، مما يبرز أهمية هذا التراث الثقافي وكيف أن الأجيال السابقة كانت تمتلك رؤى ومفاهيم معينة. في ظل التقدم الحضاري وتعقيدات الحياة المعاصرة، قد ينظر الناس أكثر إلى قضاياهم اليومية، لكن “أم سبع عيون” تظل شاهدة على تراث غني يعكس تفاعل الإنسان مع مظاهر الحياة الروحية والدينية.

“أم سبع عيون” ليست مجرد عنصر زخرفي في الثقافة العراقية، بل هي تجسيد للعقائد الشعبية والتقاليد القديمة التي استمرت عبر العصور. يمكننا أن نلقي نظرة أعمق على هذه الظاهرة لفهم دورها وأهميتها في حياة الناس.

تعكس “أم سبع عيون” فهماً عميقاً للعالم الروحي والميتافيزيقي، حيث يؤمن الناس بأن هذه العيون السبع تشكل حاجزاً فعّالاً ضد الطاقات السلبية التي قد تنبعث من عيون الآخرين المحقدين. يرتبط هذا الاعتقاد بفهم عناصر الطاقة وتأثيراتها على حياة الإنسان، حيث يعتبر اللون الأزرق وسيلة لتفريق هذه الطاقات وحماية الفرد من الأذى المحتمل.

من الجدير بالذكر أن هذه العادة ليست مقتصرة على فترة معينة، بل استمرت عبر العصور، مما يبرز قوة التمسك بالتراث والتقاليد في بناء الهوية الثقافية. في الزمن البابلي، كان الناس يرون في هذه التعويذة وسيلة لحماية قصورهم وممتلكاتهم الثمينة. ورغم التطورات الاجتماعية والثقافية، استمرت “أم سبع عيون” في تجاوز الحدود الزمنية والجغرافية، مما يعكس عمق الروابط التاريخية والثقافية في المنطقة.

من اللافت أيضاً أن الاعتقادات التقليدية المتعلقة بالحماية من الحسد قد حظيت بدعم من العلم الحديث. يشير البعض إلى أن لون الأزرق قدرته على تشتيت الأشعة وتقليل تأثيرها، وهو ما يتماشى مع الاعتقاد الشعبي المتجسد في “أم سبع عيون”.

في ختام النقاش، يظل تاريخ وجود “أم سبع عيون” مصدر إلهام لفهم عمق الروابط بين الإنسان والتراث، حيث تتجسد في هذه العادة الشعبية قصة مستمرة عن التواصل مع الأباطرة القدماء والإيمان بفعالية التقاليد في حماية حياة الفرد.