أقوال وحكم ومواعظ علي بن أبي طالب: حكمة خالدة على مر العصور
من بين الشخصيات الإسلامية البارزة التي تركت أثرًا خالدًا في الفكر الإنساني والروحي، يبرز اسم علي بن أبي طالب كرائد للحكمة والفصاحة والعدل. كان علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وصهره، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من آمن من الصبيان، وأحد أعظم أئمة الإسلام علمًا وورعًا وشجاعة. عُرف عنه اتساع مداركه، وعمق بصيرته، ونقاء سريرته، وبلاغته التي أبهرت العلماء والخطباء على مرّ العصور.
خلّف علي بن أبي طالب إرثًا غنيًا من الأقوال والحكم والمواعظ، والتي تمثّل في مجموعها مدرسة فكرية وأخلاقية قائمة بذاتها، ترتكز على القيم الإسلامية الأصيلة، وتعالج قضايا النفس والمجتمع والسياسة والمعرفة والعدل. هذا المقال يستعرض جانبًا موسّعًا من هذا الإرث، موضحًا أهمية مواعظه وأقواله في بناء الوعي الإنساني وتوجيه السلوك الفردي والجماعي.
أولًا: علي بن أبي طالب والبلاغة
لم يكن علي بن أبي طالب خطيبًا فحسب، بل كان فقيهًا لغويًا، ومفكرًا فلسفيًا، ورائدًا في استخدام اللغة كأداة للتربية والإصلاح والتنوير. كتابه “نهج البلاغة” الذي جمعه الشريف الرضي، يتضمن خطبه ورسائله وحكمه، ويُعد من أبرز ما كُتب في الأدب العربي والإسلامي من حيث البلاغة والمعاني العميقة.
قال الجاحظ في معرض مدحه لفصاحة علي: “كان علي بن أبي طالب أفصح الناس بعد رسول الله”، وقد جمعت أقواله بين قوة الحجة وجمال التعبير وعمق المعنى، وهو ما جعلها قابلة للتأمل والتطبيق عبر الأجيال.
ثانيًا: في الحكمة والتأمل في النفس
من أبرز سمات أقوال الإمام علي أنها تخاطب الإنسان في جوهره، وتدعوه إلى محاسبة النفس وتزكيتها، وتعميق الصلة بالله. من أشهر أقواله في هذا السياق:
“من عرف نفسه فقد عرف ربه”
هذه المقولة العميقة تفتح بابًا للتفكر في علاقة الإنسان بخالقه، وتحث على التأمل في النفس البشرية كطريق لفهم الحياة والكون والحقائق الوجودية.
“النفوس الطيبة لا يغيرها الزمن، بل تزداد طيبة”
تشير هذه الحكمة إلى ثبات الأخلاق في النفوس الطاهرة، مهما تغيرت الظروف أو تبدلت الأيام، فالخير أصيل في من تربى على القيم النبيلة.
“ما أكثر العبر وأقل الاعتبار”
وهذه دعوة للتأمل في تجارب الآخرين واستخلاص العبر منها، وعدم الاكتفاء بالمشاهدة السطحية لما يجري في الحياة.
ثالثًا: في الزهد والدنيا
كان الإمام علي زاهدًا في الدنيا، يحذر من الغفلة والانغماس في متاع الحياة الزائل، ويحث على العمل للآخرة. من أقواله:
“الدنيا دار ممرّ لا دار مقرّ، والناس فيها رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها”
هذه المقولة تختصر فلسفة الزهد في أبلغ تعبير، وتدل على أن الإنسان هو من يختار طريقه: إما أن يبيع نفسه لشهوات الدنيا، أو أن يفكها بالعمل الصالح.
“اغتنموا الفرص، فإنها تمرّ مرّ السحاب”
في هذا القول تذكير بأهمية استغلال الفرص قبل ضياعها، لأن الوقت لا يعود، والأيام لا تنتظر المترددين.
رابعًا: في العدالة والحكم والسياسة
يُعد الإمام علي من أوائل من نظّروا لمفهوم الدولة العادلة، فقد كان حاكمًا عادلًا، يراعي الحقوق، ويقيم الميزان بالقسط. ومن أقواله في السياسة:
“إنّ الله فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره”
هذا القول يضع أساسًا مهمًا للحكم العادل، وهو أن يعيش الحاكم كما يعيش عامة الناس، ويشعر بألمهم وهمومهم، لا أن ينفصل عن واقعهم في قصور فارهة أو بحياة مترفة.
“أعدل السّياسة أن تعدل في الحكم، وتحسن في القسمة، وتمنع الظّلم”
منهج علي بن أبي طالب في الحكم كان مبنيًا على العدل والمساواة والرحمة، وهو ما جعله رمزًا يُحتذى به في جميع العصور.
خامسًا: في الصداقة والناس
كانت مواعظ الإمام علي حول العلاقات الاجتماعية تفيض بالحكمة، فهو الذي قال:
“صديقك من نهاك، وعدوك من أغراك”
فهو يرى أن الصديق الحقيقي هو من يدفعك نحو الخير، ويمنعك من الوقوع في الخطأ، لا من يوافقك على كل شيء ويدفعك للهلاك.
“ما أضمر أحد شيئًا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه”
وهنا إشارة إلى أهمية صدق النية ونقاء السريرة، لأن ما في القلب لا يلبث أن ينعكس على اللسان والوجه.
سادسًا: في العلم والمعرفة
اعتبر الإمام علي العلم أساسًا لبناء الإنسان، وكان من أوائل من دعا إلى نشره وتكريمه. من أقواله في ذلك:
“العلم خير من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال”
وهو بذلك يوضح الفرق الجوهري بين العلم والمال، فالعلم يبقى مع الإنسان ويحميه، بينما المال زائل يحتاج إلى من يحفظه.
“قيمة كل امرئ ما يحسنه”
هذه العبارة توجز فلسفة الإمام في تحديد قيمة الإنسان بناءً على ما يتقنه من علم أو خلق أو مهارة، لا بناءً على أصله أو ماله.
“لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال”
وفي هذا توجيه واضح نحو الموضوعية والتجرد في تلقي المعرفة، بعيدًا عن التحيزات القبلية أو الطبقية.
سابعًا: في الأخلاق والتربية
اهتم الإمام علي بالتربية الخلقية كركيزة لإصلاح المجتمع، ومن مواعظه الشهيرة:
“عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به”
هذه القاعدة الأخلاقية الشاملة تصلح أن تكون مبدأً للحياة، لأنها تقوم على المعاملة بالمثل والإحساس بالآخر.
“لا تستحي من إعطاء القليل، فإن الحرمان أقل منه”
دعوة للكرم والعطاء، ولو كان بسيطًا، لأن تقديم القليل خير من البخل المطلق.
“احذر كلّ قول وفعل يؤدي إلى الملامة، ويورث الندامة”
نصيحة أخلاقية تهدف إلى بناء سلوك سليم يقوم على الوعي بالعواقب.
ثامنًا: في الموت والآخرة
كان علي بن أبي طالب شديد الارتباط بالآخرة، دائم التذكير بها، ومن كلماته في هذا المجال:
“الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا”
يرى الإمام أن كثيرًا من الناس غافلون عن الحقيقة الكبرى، وهي الآخرة، ولا يستيقظون إلا بالموت الذي يكشف كل شيء.
“تزودوا فإن خير الزاد التقوى”
هذه دعوة دائمة للاستعداد للآخرة بالتقوى والعمل الصالح.
تاسعًا: في الجهاد والصبر والشجاعة
الإمام علي كان بطلًا في ساحات المعارك، لكنه لم يكن يسعى للحرب بل للسلام، وكان يرى في الصبر والمقاومة طريقًا للنصر.
“الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر عمّا تحب”
يُبين بهذا القول أن الصبر ليس مجرد تحمّل المصائب، بل هو أيضًا قدرة على كبح الشهوات والانضباط في السلوك.
“لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءًا، وأنت تجد لها في الخير محملا”
هذه دعوة للتمهل وعدم التسرع في الحكم على الآخرين، والبحث عن الأعذار بدلًا من التأويل السيئ.
جدول مختصر لبعض أقوال الإمام علي بن أبي طالب حسب الموضوع
| الموضوع | القول |
|---|---|
| النفس | من عرف نفسه فقد عرف ربه |
| الدنيا | الدنيا دار ممر لا دار مقر |
| العدل | أعدل السياسة أن تعدل في الحكم |
| الصداقة | صديقك من نهاك، وعدوك من أغراك |
| العلم | العلم خير من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال |
| الأخلاق | عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به |
| الموت والآخرة | الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا |
| الصبر والجهاد | الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر عمّا تحب |
الخاتمة
يشكل تراث الإمام علي بن أبي طالب منظومة متكاملة من القيم التي تصلح لكل زمان ومكان. حكمه ومواعظه تنير دروب الباحثين عن الفضيلة، وتقدم رؤية إنسانية وإسلامية راقية في مجالات الحياة كافة. هذه الأقوال لم تكن مجرد كلمات بل تجارب حية صيغت في قالب أدبي رفيع، خرجت من قلب رجل عاش الحكمة قولًا وفعلاً، وبقيت تراثًا خالدًا يفيض بالنور والمعاني لمن أراد الهداية والارتقاء.
المراجع:
-
نهج البلاغة – جمع الشريف الرضي.
-
الجاحظ، البيان والتبيين، دار صادر.
