حكم من الواقع: بين التجربة والمقولة
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا بين آراء ومواقف مختلفة، كل واحدة تحمل حكمًا مستخلصًا من التجارب الحياتية. هذه الأحكام قد تكون مبنية على تجارب شخصية، أو حتى على ما يُنقل من الأجيال السابقة، وعادةً ما تُطرح هذه الحكم على شكل مقولات أو أقوال مأثورة تعكس حكمًا عميقًا وتوجهًا فكريًا حيال قضايا الحياة المختلفة. “حكم من الواقع” هو مفهوم يعكس خبراتنا الحية والمعاشة، وهي بمثابة خلاصة تتيح لنا رؤية أعمق للظروف المحيطة بنا، وتوجهات البشر، ومواقفهم في مواجهة التحديات.
تعريف الحكم من الواقع
تتعدد تعريفات الحكم من الواقع، إلا أن جوهره يكمن في أنه يعبر عن المواقف الحياتية التي نمر بها، وكيفية تفسيرها بناءً على التجربة الشخصية أو الجماعية. هذه الأحكام لا تكون مجرد آراء عامة أو نظرية، بل هي حكم تُستنبط من واقع ملموس لا يمكن إنكاره أو تجاهله. فهي أحكام منبعثة من تجارب حقيقية، ومعايشة يومية لما يحدث حولنا.
لا يمكن اعتبار حكم من الواقع مجموعة من الكلمات الجاهزة التي يتداولها الناس بدون خلفية أو سياق. فكل حكم يحمل وراءه تجربة، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، وفيه يتداخل الوعي البشري مع العوامل البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر في سلوكيات الأفراد.
الحكم من الواقع في الثقافات المختلفة
إن الحكمة المستخلصة من الواقع ليست موحدة في جميع الثقافات. فكل مجتمع، بناءً على خلفيته التاريخية والثقافية، يتعامل مع مواقف الحياة بشكل مختلف. فالمجتمعات التي تعيش في بيئات قاسية قد تجد في تجاربها مواقف تعلم الأفراد الصبر، بينما في المجتمعات التي تحظى برفاهية اقتصادية، قد تكون القيم المستخلصة من الواقع هي تلك التي تتعلق بالرفاهية الروحية والتواصل الاجتماعي.
من أمثلة ذلك، في بعض الثقافات العربية، نجد أن المثل الشعبي “من جدّ وجد” يتكرر بكثرة، مما يعكس قيمة الجهد والمثابرة، في حين أن في ثقافات أخرى قد نجد حكماً مختلفاً مثل “الوقت هو المال” الذي يعكس قيمة العمل والوقت في المجتمعات الاقتصادية المتقدمة.
العوامل المؤثرة في الحكم من الواقع
-
التجربة الشخصية: لا شك أن الشخص الذي يمر بتجربة صعبة أو محورية في حياته يخرج منها بحكمة من الواقع تتناسب مع تلك التجربة. فالشخص الذي فقد أحد أحبائه يتعلم قيمة الحياة بشكل أعمق من الشخص الذي عاش حياة مريحة ولم يواجه الصعاب.
-
التربية والتعليم: التنشئة الأسرية والمدرسية تلعب دورًا كبيرًا في تحديد نوعية الأحكام التي سيحملها الفرد في المستقبل. فالأفراد الذين نشأوا في بيئات تعليمية تحتفي بالتفكير النقدي يتبنون مواقف أكثر مرونة وواقعية.
-
الظروف الاجتماعية والاقتصادية: من المؤكد أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي له تأثير قوي على حكم الأفراد. على سبيل المثال، في المجتمعات التي تعاني من الفقر، تصبح القيم مثل الكفاح والبقاء على قيد الحياة أكثر بروزًا. بينما في المجتمعات التي تتمتع باستقرار اقتصادي، تبرز القيم مثل الابتكار والرغبة في التفوق.
-
العوامل الثقافية: الثقافة تلعب دورًا كبيرًا في تكوين حكم الأفراد. في الثقافات التي تشدد على القيم الجماعية، مثل بعض الثقافات الشرقية، نجد أن الأحكام تركز على مصلحة المجتمع ورفاهية الآخرين قبل المصالح الشخصية.
-
التقنيات الحديثة ووسائل الإعلام: في العصر الحديث، أصبحت وسائل الإعلام جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. الإعلام ليس فقط مصدرًا للمعلومات بل يُشكل أيضًا الواقع الذي نعيش فيه. من خلاله، تتأثر مفاهيمنا عن الحياة، ويُعاد تشكيل أحكامنا بناءً على ما نراه ونسمعه من تجارب الآخرين.
أنواع حكم من الواقع
-
الحكم الأخلاقي: هو حكم ينطوي على معايير أخلاقية تُستنبط من الواقع المعاش. مثال على ذلك، فكرة أن “الصدق منجاة”، التي تستند إلى تجارب الحياة العملية حيث يُدرك الأفراد أن الصدق هو الطريق الأكثر أمانًا حتى في أصعب الظروف.
-
الحكم العاطفي: يرتبط بالمشاعر والعواطف التي يعيشها الفرد في مواقف الحياة المختلفة. مثال على ذلك، “الحب أساس كل شيء”، وهي حكمة نابعة من تجارب العديد من الأشخاص الذين اكتشفوا قيمة الحب والعاطفة في حياتهم اليومية.
-
الحكم العقلاني: يعتمد على المنطق والعقل في تفسير المواقف. يتجسد ذلك في الحكمة القائلة “العقل زينة”، التي تشير إلى أهمية التفكير العقلاني في اتخاذ القرارات السليمة.
-
الحكم المجتمعي: يعكس القيم والمبادئ التي يعتقدها المجتمع ككل ويستند إليها. مثلًا، “العين بالعين”، التي تعبر عن فكرة العدالة الانتقامية التي قد تكون شائعة في بعض المجتمعات.
-
الحكم المهني: ينشأ هذا الحكم من التجارب العملية في مختلف المجالات المهنية. فمثلاً، “الوقت من ذهب” هو حكم يعكس الوعي بقيمة الوقت في بيئات العمل.
أمثلة على حكم من الواقع
-
“من لا يعمل لا يأكل”: هذه المقولة تعكس القيمة الجوهرية للعمل في المجتمعات البشرية. وتجسد حكمًا نابعًا من واقع حياة يتطلب جهدًا لتحقيق النجاح.
-
“الدنيا لا تدوم لأحد”: تبرز هذه الحكمة التجربة الحياتية التي تعلم الأفراد أن الحياة مليئة بالتقلبات، وأن النعم لا تدوم إلى الأبد. هي رسالة لتقدير اللحظات الراهنة والاستعداد للتغيرات.
-
“السكوت علامة الرضا”: تعتبر هذه المقولة حكمًا اجتماعيًا يربط بين الصمت والقبول في المواقف المختلفة. وعادة ما تكون مرتبطة بالثقافة التي تقدر احترام الآخرين وتهتم بعدم إحداث الفتنة.
دور حكم من الواقع في الحياة اليومية
تُعتبر الأحكام المستخلصة من الواقع أدوات توجيه تساعد الأفراد في اتخاذ القرارات، خاصة في الأوقات الحرجة. على سبيل المثال، عندما يواجه شخص مشكلة مع علاقته العاطفية، قد يسترجع حكمة من الواقع مثل “من يزرع الشوك لا يقطف الورد” ليُدرك أنه إذا لم يُعامل الآخرون باحترام، فلن يحصد سوى المشكلات.
وفي مجال العمل، قد تلعب هذه الأحكام دورًا كبيرًا في تحديد كيفية التعامل مع الزملاء والعملاء. فمقولة “إذا لم تستطع أن تقول شيئًا جيدًا، فلا تقل شيئًا” قد تكون مرشدًا لأفراد يسعون للحفاظ على بيئة عمل مهنية.
الخاتمة
إن حكم من الواقع هو نتيجة تفاعل الإنسان مع الحياة. إنه ليس مجرد مجموعة من الكلمات أو المقولات الجاهزة، بل هو خلاصة تجارب، اختيارات، وأحداث عاشها الإنسان في حياته. ولأن الحياة مليئة بالتحولات والتغيرات، تظل هذه الأحكام حية في قلوب الناس، تبقى حاضرة لتوجيههم في أوقات الحاجة.
