حكم وأقوال ابن القيم

حكم وأقوال ابن القيم: درر من الفقه والحكمة

ابن القيم الجوزية، هو واحد من أعظم العلماء الذين شهدتهم الأمة الإسلامية، وتعدّ كتبه وأقواله مرجعًا هامًا في مجال الفقه والتفسير والعقيدة. وُلد في مدينة دمشق عام 1292م وتوفي في عام 1350م، وكان له تأثير كبير على الفقه الإسلامي والنظريات الفكرية في عصره وفي العصور التي تلت. من أبرز مميزاته أنه كان يمزج بين العلم والعمل، بين العبادة والتفكير، وبين النظرية والتطبيق. من خلال حكمه وأقواله، ترك لنا إرثًا كبيرًا من الفقه والعقيدة التي تمثل منارات من النور على مر العصور.

خلفية عن حياة ابن القيم

عاش ابن القيم في عصر كانت فيه الأمة الإسلامية تشهد تطورًا فكريًا وعلميًا مهمًا، حيث كان الفكر الإسلامي يعبر عن مجموعة متنوعة من المدارس الفقهية والعقائدية. بدأ دراسته في دمشق على يد شيوخ كبار مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي كان له تأثير كبير في توجيه فكر ابن القيم. فهذه العلاقة العلمية ساعدت ابن القيم في تطوير شخصيته العلمية ليصبح واحدًا من أبرز العلماء في الفقه والأصول والعقيدة.

ابن القيم كان يتسم بالزهد والتقوى، كما كان من المتصوفة الذين يميلون إلى التأمل في أحوال النفس البشرية وعلاقتها بالخالق. ولقد كان يحمل في قلبه شغفًا كبيرًا بالعلم والدعوة، حيث وضع الأسس لفهم أعمق وأشمل للعديد من المسائل الشرعية.

فلسفة الحكم والتوجيه في أقوال ابن القيم

لقد كانت أقوال ابن القيم مليئة بالحكمة والرشاد، وغالبًا ما كانت تُعبّر عن مواقف من الحياة اليومية، لكنها كانت متجذرة في عمق الشريعة الإسلامية. وفيما يلي نعرض بعض أبرز حكمه التي تعكس فكره الناضج وحكمته الفائقة:

1. حكمته في التعامل مع النفس البشرية:

ابن القيم كان يرى أن من أهم واجبات الإنسان هو إصلاح نفسه وتزكيتها. في أحد أقواله الشهيرة، قال: “من أراد أن يحيي قلبه فليُحيِّ معالم الإيمان فيه، ولن يجد سعادته إلا بطاعة الله”. في هذه الكلمات دعوة صريحة إلى الأخذ بزمام النفس ومراقبة الله في جميع الأمور. وهو هنا يربط بين حياة القلب وسلامته وبين الإيمان والطاعة، مؤكدًا أن الإنسان لا يستطيع أن يجد السكينة إلا عندما يتوجه بقلبه إلى الله ويُعنى بإصلاح ذاته.

2. الاعتدال والتوازن:

من أقواله المعروفة “من أخذ من الطريق أقربه، أخذ من حياة القلب أبعده”. ابن القيم كان يرفض الإفراط والتفريط في جميع أمور الحياة. كان ينظر إلى الإسلام باعتباره دينًا يدعو إلى التوازن بين الدنيا والآخرة، فلا إفراط في العبادة ولا تفريط في المعاملات. كان يرى أن من أعظم أسباب البلاء في حياة الإنسان هو اختلال هذا التوازن، إذ أن المسلم في حاجة إلى الاعتدال في كل جوانب حياته.

3. التوكل على الله:

ابن القيم كان يولي التوكل على الله أهمية كبيرة في حياته وفي حياته الدعوية. وكان يرى أن الإنسان يجب أن يسعى بجد واجتهاد لتحقيق أهدافه، لكنه في الوقت نفسه يجب أن يضع توكله على الله وحده، كما قال: “توكلت على الله في كل أمر، فما خاب من توكل على الله”. هذه المقولة تدعونا إلى التفويض الكامل لله في أمورنا بعد بذل الأسباب، وتؤكد على أهمية الثقة في الله وتفويض الأمور إليه.

4. الاجتهاد في طلب العلم:

كان ابن القيم من المدافعين البارزين عن العلم وطلبه. في رأيه، كان العلم هو طريق الهداية والنجاح، وكان يقول في ذلك: “العلم نور، والعمل به نور، ولا شيء أضيء من علم يعمل به”. يشير ابن القيم هنا إلى أهمية العلم الذي يقود إلى العمل الصالح، مؤكدًا أن العلم لا قيمة له إذا لم يُترجم إلى أفعال، وأن العلم يُكمل العمل ويعطيه طابعًا من النور والبركة.

5. التحلي بالصبر:

كان ابن القيم يعتبر الصبر من أعظم الفضائل التي يتحلى بها المؤمن. وقد قال: “الصبر مفتاح الفرج، ومن صبر نال رضا الله”. في هذا القول يشير إلى أن الصبر في مواجهة المصاعب والابتلاءات يُعد من الأسباب الرئيسية للفوز والنجاح، وأنه بغير الصبر، لا يستطيع الإنسان أن يحقق هدفًا عظيمًا في حياته. وكان ابن القيم ينصح بالصبر على الدعوة إلى الله وعلى تحمل مشاق الحياة اليومية.

6. التواضع والرفق بالآخرين:

ابن القيم كان ينظر إلى التواضع على أنه من أسمى الفضائل التي يجب أن يتحلى بها المسلم، وقال في هذا الصدد: “من تواضع لله رفعه”. ويُفهم من هذا القول أن التواضع هو طريق الرفعة في الدنيا والآخرة، وأن التكبر والغرور لا يجلبان للإنسان سوى الخيبة. وكان ابن القيم يدعو إلى التعامل برفق مع الآخرين، وعدم التعالي عليهم، مهما كانت مكانتهم الاجتماعية أو العلمية.

نظرة فقهية في بعض أقوال ابن القيم

ابن القيم كان من العلماء الذين جمعوا بين الفقه والتفسير والعقيدة، وكان له فتاوى وآراء فقهية أثرت في الأمة الإسلامية بشكل كبير. كان له موقف واضح في العديد من القضايا الفقهية، مثل الطلاق والزواج والصلاة وغيرها.

1. في الطلاق:

كان ابن القيم يرى أن الطلاق يجب أن يكون وفقًا للشرع وبشروط دقيقة لضمان أن يكون الفراق بين الزوجين في مصلحة الطرفين، وأكد على أن الطلاق لا يكون جائزًا إلا بعد استنفاد جميع المحاولات لإصلاح العلاقة.

2. في الصلاة:

أفرد ابن القيم فصولًا طويلة في كتبه حول الصلاة وأحكامها، مؤكداً على أهمية الخشوع فيها، وأن الصلاة لا تكون مقبولة إلا إذا كان فيها قلب المسلم حاضرًا. وقال: “إن الصلاة لا تقبل إلا إذا اجتمع فيها العمل مع النية الصافية”.

آثار ابن القيم في العالم الإسلامي

لقد كانت أقوال ابن القيم بمثابة جسر وصل بين الفقه القديم والمعاصر، وبين العقلية الإسلامية التقليدية وتلك التي تنشد تجديد الفكر. من خلال كتبه وأقواله، مثل “إغاثة اللهفان” و”مدارج السالكين”، قدم نموذجًا رائدًا في التأصيل الفقهي والتربية الروحية.

من خلال دراسته، نجد أن ابن القيم لم يقتصر على إلقاء الحكم فقط بل سعى إلى تمحيص أصول الفقه وإعادة تفسير العديد من القضايا بشكل يتناسب مع الحاجة الإنسانية في كل عصر، مما جعله واحدًا من أعظم المفكرين في تاريخ الأمة الإسلامية.