حكم مسح الوجه بعد الدعاء: دراسة فقهية وشاملة
يعد الدعاء من أعظم العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه، وهو من وسائل التواصل الروحي التي تحث عليها الشريعة الإسلامية. وقد أمر الله عز وجل عباده بالدعاء في العديد من الآيات القرآنية، حيث قال: “وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ” (غافر: 60). ومن هنا، تأتي أهمية الدعاء في حياة المسلم، إلا أن هناك العديد من المسائل الفقهية المتعلقة بهذه العبادة التي تحتاج إلى دراسة وتوضيح، ومن بين هذه المسائل هو حكم مسح الوجه بعد الدعاء.
1. مفهوم مسح الوجه بعد الدعاء في الإسلام
مسح الوجه بعد الدعاء هو إجراء قد يفعله بعض المسلمين بعد أن يفرغوا من الدعاء. ففي بعض الأحيان، يقوم المسلم بوضع يديه على وجهه بعد الانتهاء من الدعاء، سواء كان الدعاء في الصلاة أو خارجها. وقد كان هذا الموضوع موضع نقاش بين علماء الفقه في تاريخ الإسلام، إذ لم يكن الأمر واضحًا بشكل قاطع في بعض الحالات.
2. الأدلة الشرعية في حكم مسح الوجه بعد الدعاء
فيما يخص مسح الوجه بعد الدعاء، لا يوجد دليل مباشر من القرآن الكريم يبين حكم هذا الفعل على وجه التحديد. ومع ذلك، يمكننا الرجوع إلى السنة النبوية الشريفة واستنباط الأحكام من خلالها.
أ. السنة النبوية:
في الحديث النبوي الشريف، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمسح وجهه بعد الدعاء بصفة مستمرة أو معروفة. لم تذكر الأحاديث الصحيحة التي نقلها الصحابة، والتي توضح كيفية الدعاء بشكل محدد، أنه كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح وجهه بعد الدعاء.
وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه للدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه”. من هذا الحديث، يمكن أن يستنتج البعض أن مسح الوجه بعد الدعاء هو أمر مشروع، بناءً على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن ينبغي أن نلاحظ أن هذا الحديث يتحدث عن رفع اليدين أثناء الدعاء وليس بالضرورة بعده، إذ قد يكون الحديث في سياق معين أو موقف خاص. ولا توجد أدلة قوية تؤكد أن هذه العادة كانت متبعة دائمًا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
ب. الآراء الفقهية:
-
الحنفية:
يرى فقهاء المذهب الحنفي أن مسح الوجه بعد الدعاء لا يعد سنة مستحبة أو عملًا مشروعًا. ويرون أن الدعاء لا يرتبط بمسح الوجه بعده بل هو أمر متروك للمسلم ولا حرج عليه في تركه. فالدعاء في حد ذاته هو العبادة التي يجب أن تركز عليها النية، ولا يحتاج المسلم إلى عمل إضافي بعد الدعاء سوى انتظار الإجابة. -
المالكية:
اتفق المالكية مع الحنفية في أن مسح الوجه بعد الدعاء ليس من السنة المتبعة ولا يعتبر من أركان الدعاء. هم يرون أنه يمكن للمسلم أن يمسح وجهه بعد الدعاء إذا كان يرغب في ذلك، ولكن هذا ليس مما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم بشكل عام. -
الشافعية:
في المذهب الشافعي، هناك بعض الاختلافات بين الفقهاء، إذ يرى البعض أن مسح الوجه بعد الدعاء يكون مستحبًا، بينما يرى البعض الآخر أن ذلك ليس له أصل في السنة. ويستند الذين يفضلون هذه العادة إلى الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين في الدعاء ومسح الوجه بهما بعد الدعاء. -
الحنابلة:
يرى فقهاء المذهب الحنبلي أن مسح الوجه بعد الدعاء ليس من السنة الثابتة، ولكنهم لا يرون فيه بأسًا إذا فعله الشخص. ومع ذلك، فإن الحنابلة لا يشجعون على هذه العادة باعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم عليها.
3. الحالات التي يمكن أن يتبع فيها المسلم مسح الوجه بعد الدعاء
إن مسح الوجه بعد الدعاء يمكن أن يتم في حالات معينة دون أن يتعارض مع أي حكم شرعي. ومن هذه الحالات:
أ. الدعاء في الصلاة:
عند الدعاء في الصلاة، لا يعتبر مسح الوجه بعد الدعاء جزءًا من الصلاة. ولكن يمكن أن يقوم المسلم بذلك بعد أن ينتهي من دعائه إذا كان يشعر برغبة في ذلك، وذلك بناءً على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان.
ب. الدعاء في الأوقات المستحبة:
يمكن أن يمسح المسلم وجهه بعد الدعاء في بعض الأوقات المستحبة كالدعاء في ليلة القدر أو في الساعات الأخيرة من يوم الجمعة، وهي أوقات يكون فيها الدعاء أكثر قبولًا. يمكن أن يشعر المسلم بحاجة للتوسل إلى الله وتكثيف الدعاء، ومن هنا قد يقوم بهذا الفعل.
4. موقف العلماء من مسألة مسح الوجه بعد الدعاء
بعض العلماء يرون أن مسح الوجه بعد الدعاء هو من الأعمال التي تتبع الشخص حسب عادة أهل البلد أو الفرد ذاته، ولا يجوز القول بأن المسح بعد الدعاء هو أمر محرم أو مكروه. في حين أن آخرين يرفضون هذا الفعل بشكل عام، حيث يرون أنه لا يضيف شيئًا إلى الدعاء في حد ذاته. وقد أشاروا إلى أن التركيز في الدعاء والابتعاد عن أي أفعال إضافية هو الأصل في الإسلام، وأن المسلم يجب أن يحرص على أن تكون عباداته خالصة لله.
5. حكم مسح الوجه بعد الدعاء في حالة الاستجابة
من المواقف التي يمكن أن يتم فيها مسح الوجه بعد الدعاء هو في حال استجابة الدعاء. ففي حال تحقق ما دعا به المسلم، فقد يكون مسح الوجه نوعًا من الشكر والامتنان لله على استجابة الدعاء. ولكن ينبغي أن يتم ذلك بشكل طبيعي ودون أن يتم فرضه كأمر حتمي.
6. الفرق بين مسح الوجه بعد الدعاء والدعاء الذي يسبق الصلاة
يجب التفريق بين الدعاء الذي يتم قبيل الصلاة وبين الدعاء الذي يتم بعد الصلاة. ففي الدعاء قبل الصلاة، يمكن أن تكون هناك أوقات وأماكن خاصة للدعاء، مثل دعاء الاستفتاح في الصلاة، أو الدعاء في السجود. أما مسح الوجه بعد الدعاء في هذه الحالة فهو ليس له دليل شرعي خاص، لذلك يُفضل أن يقتصر المسلم على الدعاء دون إضافة أي أفعال إضافية.
7. خلاصة القول في حكم مسح الوجه بعد الدعاء
في الختام، يمكن القول أن مسح الوجه بعد الدعاء ليس أمرًا محرمًا أو مكروهًا بشكل عام في الشريعة الإسلامية، لكنه ليس من السنن الثابتة. إن هذا الفعل يعد من الأمور التي يمكن أن يتبعها المسلم كعادات شخصية دون أن يؤثر على صحة الدعاء أو تأثيره. إذ يبقى الدعاء في جوهره عبادة خالصة لله تعالى، ويجب على المسلم أن يحرص على النية الصافية والتوجه الكامل نحو الله في دعائه.
إذا أراد المسلم مسح وجهه بعد الدعاء، فليس في ذلك حرج طالما لم يتم إلحاقه بتكليف شرعي أو سنة واجبة. ومع ذلك، يجب أن يدرك المسلم أن الدعاء أهم من أي فعل آخر قد يقوم به بعده، وأن الالتزام بما ورد في الكتاب والسنة هو الأصل.
