حكم قراءة القرآن بدون وضوء

قراءة القرآن دون وضوء: الأحكام والضوابط الفقهية المفصلة

القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى المعجز، والمصدر الأول للتشريع في الإسلام، يتعبد المسلمون بتلاوته ويتقربون إلى الله بقراءته وتدبره، وقد أحاطه الإسلام بأحكام وآداب عديدة، من بينها مسألة الطهارة عند تلاوته، والتي تُعدّ من المسائل المهمة التي شغلت علماء الفقه وأثارت تساؤلات كثيرة بين المسلمين، ومن أبرزها: هل يجوز للمسلم أن يقرأ القرآن دون أن يكون على وضوء؟ وهل الوضوء شرط لصحة القراءة أم هو من قبيل الكمالات والآداب فقط؟

لفهم هذه المسألة لا بد من الوقوف على أقوال العلماء وأدلتهم من الكتاب والسنة، وتحليل مفهوم الطهارة في الإسلام ومدى تأثيره على قراءة القرآن، وكذلك التفريق بين التلاوة من المصحف ولمس المصحف والتلاوة عن ظهر قلب، لأن الحكم يختلف بحسب الأحوال والهيئات، وسنتناول كل ذلك بالتفصيل في هذا المقال الذي يتجاوز مجرد الإجابة السطحية، ليقدم تأصيلاً فقهياً شاملاً للمسألة.

أولاً: مفهوم الطهارة في الإسلام وعلاقتها بالعبادات

الطهارة في الشريعة الإسلامية هي رفع الحدث أو إزالة الخبث، وهي شرط أساسي لصحة كثير من العبادات كالصلاة والطواف. وتنقسم الطهارة إلى نوعين:

• الطهارة من الحدث الأصغر: وهي التي تتحقق بالوضوء، وتُشترط للصلاة ولمس المصحف عند جمهور العلماء.

• الطهارة من الحدث الأكبر: وهي الغسل بعد الجنابة أو الحيض أو النفاس، وتُشترط لصحة بعض العبادات مثل الصلاة والصيام في بعض الأحوال.

وقد ربط الإسلام بين الطهارة وبين تعظيم الشعائر، حيث قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، والطهارة مطلوبة في كل وقت، لكنها تصبح واجبة في حالات معينة، وتُستحب في غيرها، كما هو الحال في قراءة القرآن.

ثانياً: التمييز بين قراءة القرآن عن ظهر قلب ولمس المصحف

قبل الخوض في حكم قراءة القرآن بدون وضوء، يجب التفريق بين أمرين:

1. قراءة القرآن دون وضوء عن ظهر قلب (من الحفظ): أي أن المسلم يقرأ القرآن من غير أن يمس المصحف.

2. قراءة القرآن مع لمس المصحف: سواء كان مصحفاً ورقياً أو إلكترونياً، فمسألة الطهارة هنا تأخذ بُعداً آخر.

وهذا التمييز ضروري لأن الحكم الفقهي يختلف باختلاف الحالة، وقد تناول الفقهاء هذه المسائل بشكل مفصل ووضعوا لكل حالة حكماً مخصوصاً.

ثالثاً: حكم قراءة القرآن دون وضوء من الحفظ (عن ظهر قلب)

أجمع العلماء على جواز قراءة القرآن من غير وضوء إذا كان القارئ غير جنب، أي أنه على طهارة من الحدث الأكبر. فالحدث الأصغر لا يمنع المسلم من تلاوة القرآن من حفظه، لكن يُستحب له أن يكون على وضوء تعظيماً لكلام الله تعالى.

أدلة الجواز:

• عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً” [رواه أحمد وأبو داود]. دلّ الحديث على أن الجنب ممنوع من التلاوة، أما من هو محدث حدثاً أصغر فله أن يقرأ.

• لم يرد في السنة النبوية نصّ صريح يمنع المحدث حدثاً أصغر من تلاوة القرآن عن ظهر قلب، ولو كان ذلك ممنوعاً لبُيِّن بياناً واضحاً، لأنه من الأمور العامة التي تتكرر كثيراً.

• كان الصحابة يذكرون الله ويتلون القرآن في جميع أحوالهم، ولم يُنقل عنهم أنهم كانوا يشترطون الوضوء لتلاوته عن ظهر قلب.

آراء الفقهاء:

• الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: ذهبوا إلى أنه يجوز للمسلم أن يقرأ القرآن من غير وضوء إذا كان غير جنب، لكن الأفضل أن يكون على طهارة.

وقد ذكر الإمام النووي في “التبيان في آداب حملة القرآن” أن الطهارة ليست شرطاً في تلاوة القرآن عن ظهر قلب، وإنما هي مستحبة.

رابعاً: حكم قراءة القرآن دون وضوء مع لمس المصحف

في هذه الحالة، يختلف الحكم عن الحالة السابقة، حيث اتفق جمهور العلماء من المذاهب الأربعة على عدم جواز مس المصحف من غير وضوء، واستدلوا بقول الله تعالى:

﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79]

وقد فُسر هذا في التفسير بأنه يشمل الملائكة، لكن العلماء فسروا الآية أيضاً بمعناها العام وهو تعظيم القرآن، أي لا يجوز أن يُمس المصحف إلا من هو على طهارة.

حديث من السنة:

عن عمرو بن حزم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: “ألا يمس القرآن إلا طاهر” [رواه مالك في الموطأ مرسلاً، ووصله غيره]، وقد قبله جمهور الفقهاء واحتجوا به رغم ضعف سنده عند بعضهم لأنه يعمل به فقهاء المدينة.

أقوال العلماء:

• المالكية والشافعية والحنابلة: لا يجوز مس المصحف إلا بطهارة.

• الحنفية: أجازوا لمس المصحف في بعض الحالات، مثل التعليم أو للطفل، لكنهم يفضلون الطهارة كذلك.

استثناءات عند بعض الفقهاء:

• المعلم إذا اضطر إلى لمس المصحف.

• الأطفال عند التعلم.

• لمس المصحف بوجود حائل كالقفاز أو غلاف المصحف لا يُعدّ مساً مباشراً.

خامساً: حكم قراءة القرآن للجنب والحائض والنفساء

تُمنع المرأة الحائض والنفساء، وكذلك الجنب، من تلاوة القرآن عند جمهور العلماء، سواء من المصحف أو عن ظهر قلب، حتى يغتسلوا من الحدث الأكبر.

لكن الخلاف في هذه المسألة وارد:

• المالكية والشافعية والحنابلة: يرون أن الجنب والحائض لا يجوز لهما قراءة القرآن مطلقاً.

• الحنفية: أجازوا للحائض أن تقرأ إن خشيت النسيان، أو إن كانت معلمة.

• قول ابن تيمية: أجاز للحائض قراءة القرآن لأنها ليست باختيارها، بخلاف الجنب الذي يمكنه الاغتسال متى شاء.

سادساً: حكم قراءة القرآن من الهاتف الجوال بدون وضوء

مسألة قراءة القرآن من الهاتف المحمول لم تكن موجودة في عصر الفقهاء المتقدمين، لكنها نوقشت في الفقه المعاصر، وذهب العلماء إلى أن الهاتف لا يُعدّ مصحفاً من حيث الأحكام، لأن حروف القرآن لا تظهر فيه إلا عند التشغيل، ولا تأخذ حكم المصحف الورقي.

بناءً على ذلك:

• يجوز قراءة القرآن من الهاتف أو الجهاز اللوحي بدون وضوء، سواء من الحفظ أو بالنظر.

• لا يشترط لمس الشاشة بطهارة، لأنها لا تُعدّ مصحفاً بالمعنى الفقهي.

مع ذلك، يستحب الوضوء تعظيماً للقرآن، ويستحب للقارئ أن يكون في هيئة حسنة وأن يتأدب بآداب التلاوة.

سابعاً: آداب تلاوة القرآن في جميع الأحوال

حتى مع جواز قراءة القرآن دون وضوء في بعض الأحوال، إلا أن الأدب مع كلام الله يستوجب تعظيمه والتهيؤ له، ومن الآداب التي يُستحب مراعاتها:

• الطهارة الكاملة بالوضوء أو الغسل إن كان هناك حدث أكبر.

• الجلوس بهدوء وسكينة والتوجه إلى القبلة.

• الاستعاذة والبسملة قبل البدء في القراءة.

• التدبر والخشوع أثناء التلاوة.

• عدم القراءة في أماكن غير لائقة كدورات المياه.

• ترك الانشغال أثناء التلاوة.

ثامناً: خلاصة الأحكام الفقهية في جدول توضيحي

المراجع

• النووي، التبيان في آداب حملة القرآن

• ابن قدامة، المغني

• الإمام مالك، الموطأ

• تفسير الطبري، تفسير الآية: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾

هذا التأصيل الفقهي يُظهر مدى اهتمام الشريعة بتقديس كلام الله عز وجل، وفي الوقت ذاته يُراعي حال المكلف وظروفه، فلا يشق عليه بما لا طاقة له به، فتكون الطهارة مستحبة في بعض الأحوال، وواجبة في أخرى، ويبقى تعظيم كلام الله من أعظم القربات التي يُثاب عليها المسلم، سواء أقرأه متطهراً أو في حال غير ذلك ضمن ما أباحه الشرع.