ضرب الناشز: نظرة شرعية، قانونية، اجتماعية ونفسية موسّعة

تُعدّ قضية “ضرب الناشز” من القضايا الجدلية المتجذّرة في المجتمعات الإسلامية والعربية، لما تحمله من تداخلات شرعية، قانونية، اجتماعية ونفسية. وقد شهدت هذه المسألة تحوّلات في معالجتها من قبل الفقهاء، والمفسّرين، والقانونيين، ومؤسسات المجتمع المدني، نظراً لما تثيره من جدل يتعلق بحقوق الإنسان، والكرامة، ومكانة المرأة داخل المنظومة الأسرية.

في هذا المقال الموسّع، سيتم التطرق بشكل مفصّل إلى مفهوم النشوز، والنصوص التي تم الاستناد إليها في قضية ضرب الزوجة الناشز، وتحليلها وفق السياق الشرعي والتاريخي، إضافة إلى النظرة القانونية الحديثة، وأثر هذه الممارسة على الأسرة والمجتمع.

مفهوم النشوز في القرآن واللغة والفقه

كلمة “نشوز” مأخوذة من الفعل “نشز”، أي ارتفع وارتقى، ويُقال “نشز المكان” إذا ارتفع عن الأرض، واستُخدم هذا المصطلح في السياق الأسري للدلالة على تمرد أحد الزوجين على الآخر، وغالباً ما يُطلق على الزوجة التي تمتنع عن أداء واجباتها الزوجية وتعصي زوجها، ويُشار إليها بـ”الزوجة الناشز”.

في القرآن الكريم

جاء ذكر النشوز في أكثر من موضع في القرآن الكريم، منها:

قال تعالى:

“وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ”

[النساء: 34]

وفي آية أخرى جاء النشوز من جانب الرجل:

“وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنۢ بَعْلِهَا نُشُوزًۭا أَوْ إِعْرَاضًۭا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًۭا”

[النساء: 128]

هذا يبيّن أن النشوز ليس محصورًا بالمرأة فقط، بل قد يصدر من الرجل أيضًا، ما يؤكد أن العلاقة الزوجية قائمة على التوازن والمسؤوليات المتبادلة.

تحليل الآية المتعلقة بضرب الناشز

الآية (النساء: 34) هي محور النقاش، وقد فسّرها العلماء على مر العصور بطرق مختلفة. في الفهم التقليدي، تُفهم الآية على أنها تراتبية في الإجراءات عند نشوز المرأة: الوعظ أولًا، ثم الهجر في المضجع، ثم الضرب.

لكن ينبغي الوقوف عند النقاط الآتية:

أولاً: ترتيب الوسائل التأديبية

الضرب في هذه الآية ليس أول وسيلة، بل هو الخيار الأخير بعد استنفاد الوعظ والهجر، ما يدل على أن الشريعة الإسلامية لا تدفع نحو العنف كخيار أول.

ثانياً: طبيعة الضرب

اتفق جمهور الفقهاء على أن الضرب المقصود يجب أن يكون “غير مبرّح”، أي لا يُسبّب كسرًا أو جرحًا، وألا يُضرب الوجه أو الأماكن الحساسة، بل يكون رمزياً بهدف التأديب وليس الإيذاء.

ثالثاً: الآراء المعاصرة

ظهر عدد من العلماء والمفسّرين المعاصرين الذين أعادوا قراءة هذه الآية في سياقها التاريخي والثقافي، مؤكدين أن الضرب ليس إلزامًا وإنما رخصة ظرفية كانت ملائمة لبيئة معينة. ومنهم من يرى أن الكلمة في أصلها لا تعني “الضرب الجسدي” بل “الابتعاد”، كما في قول الله: “فَضَرَبْنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمْ” أي أوقعنا عليهم السكون.

رؤية السنة النبوية لضرب الزوجة

النبي محمد ﷺ، وهو المفسّر الأول للقرآن بسيرته وسنّته، لم يضرب امرأة قط. ورد في الحديث الصحيح:

“ما ضرب رسول الله ﷺ شيئا قط بيده، لا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله.”

[رواه مسلم]

كما ورد عن النبي ﷺ في خطبة الوداع:

“استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عوان عندكم.”

كل هذه الأحاديث تُبرز بوضوح أن التعامل مع الزوجة لا ينبغي أن يقوم على العنف أو الإيذاء، بل على المودة والرحمة والتفاهم.

الرؤية الفقهية التقليدية والمعاصرة

الفقه التقليدي

في الفقه المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي، اتفق الفقهاء على مشروعية ضرب الزوجة الناشز بشروط:

• أن يكون بعد وعظها وهجرها.

• أن يكون غير مبرّح.

• ألا يكون على الوجه أو مواضع الأذى.

• ألا يكون بهدف الانتقام أو التشفي.

الفقه المقاصدي والمعاصر

بظهور فقه المقاصد، اتّجه كثير من العلماء إلى إعادة تفسير النصوص في ضوء مقاصد الشريعة العليا: حفظ النفس والكرامة، وتحقيق السكن والمودة بين الزوجين. ووفقًا لهذا التوجه، فإن ضرب المرأة، حتى ولو كان رمزيًا، يُعدّ تصرفًا مرفوضًا يناقض مقاصد الزواج، وقد تتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والعرف.

القوانين الوضعية والتشريعات الحديثة

أغلب القوانين العربية المستندة إلى الشريعة لا تُبيح ضرب المرأة، بل تعتبره جريمة يعاقب عليها القانون، ومن أبرز هذه القوانين:

هذا التوجه التشريعي يأتي استجابة لمواثيق حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها الدول العربية، مما يعكس تطوراً قانونياً في حماية حقوق المرأة.

الأثر النفسي والاجتماعي لضرب الزوجة

أولاً: الأثر النفسي على المرأة

• انخفاض تقدير الذات: العنف يُشعر المرأة بالإهانة والدونية.

• القلق والاكتئاب: التعرض المستمر للضرب يترك آثارًا نفسية عميقة.

• اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD): خاصة في حالات العنف المتكرر.

ثانياً: الأثر على الأطفال

• نقل نموذج عنفي: ينشأ الأطفال على تقبل العنف كأسلوب لحل النزاعات.

• تدهور التحصيل الدراسي: نتيجة التوتر والاضطراب الأسري.

• مشاكل سلوكية: كالعنف أو الانطواء أو التمرد.

ثالثاً: الأثر على العلاقة الزوجية

• فقدان الثقة: العنف يدمر الجسور العاطفية.

• تفكك الأسرة: يؤدي غالباً إلى الطلاق أو النفور.

• تعقيد الحلول: يصبح الحوار والتفاهم أكثر صعوبة بعد ممارسة العنف.

البدائل الشرعية والمعاصرة للتعامل مع النشوز

في ظل ما سبق، يجب التأكيد على أن الشريعة الإسلامية توفر بدائل تربوية وإنسانية للتعامل مع حالات النشوز، من بينها:

1. التحكيم الأسري: قال تعالى: “فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما”.

2. الاستشارة الأسرية: اللجوء إلى مستشار أسري أو إمام أو عالم لبحث الحلول.

3. الطلاق كحل أخير: متى استحالت العشرة، يكون الطلاق مشروعًا دون عنف أو إهانة.

دور المؤسسات الدينية والإعلامية في التوعية

تتحمّل المؤسسات الدينية مسؤولية كبيرة في تصحيح المفاهيم الخاطئة، عبر:

• الخطب والدروس: توضيح أن الضرب ليس أمراً مشروعاً مطلقاً.

• الإعلام الهادف: طرح نماذج أسرية قائمة على الاحترام والحوار.

• المناهج التعليمية: إدراج مفاهيم الحقوق الزوجية والمساواة في المناهج.

خلاصة تحليلية: ما بين النص والمقصد

إن ضرب الناشز، حتى وإن ورد ذكره في آية قرآنية، لا يعني أنه أمر مطلوب أو محمود. بل هو آخر الخيارات، وفي رأي كثير من العلماء المعاصرين، يمكن تجاوزه كلية في ظل المتغيرات الاجتماعية والحقوقية. العلاقة الزوجية ليست ميدانًا للصراع، بل لبناء حياة قائمة على الاحترام المتبادل، والمودة، والحوار. والعودة للمقاصد العليا للشريعة تُفضي إلى النأي عن كل أشكال الإيذاء الجسدي أو النفسي، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالمرأة، التي كرّمها الإسلام، ورفع شأنها، وأكد على حسن عشرتها في القرآن والسنة.

المراجع:

1. ابن عاشور، “التحرير والتنوير”، دار سحنون.

2. يوسف القرضاوي، “المرأة في الشريعة الإسلامية”، مكتبة وهبة.