حكم بناء القبر في الإسلام

حكم بناء القبر في الشريعة الإسلامية

تعد مسألة بناء القبر من المواضيع التي تثير اهتمام الكثيرين في مختلف الثقافات والمجتمعات، وخاصة في المجتمع الإسلامي، حيث يرتبط هذا الموضوع ارتباطًا وثيقًا بالعادات والتقاليد الدينية والشرعية. يتساءل العديد من المسلمين عن حكم بناء القبر في الشريعة الإسلامية، هل هو أمر مستحب أم مكروه أم محرم؟ وهل تختلف آراء العلماء في هذا الشأن؟

في هذا المقال، سنتناول حكم بناء القبر في الإسلام استنادًا إلى النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، مع توضيح آراء العلماء والمذاهب الفقهية المختلفة حول هذا الموضوع. سنناقش كذلك الجوانب العملية المتعلقة ببناء القبور، سواء في حال كانت على شكل أضرحة مزخرفة أم كانت مجرد قبور بسيطة، وسنسلط الضوء على المبادئ الشرعية المتعلقة بالعناية بالموتى وكيفية التعامل مع قبورهم.

أولًا: حكم بناء القبر في الإسلام

في الإسلام، يُعتبر القبر هو المكان الذي يُدفن فيه الميت بعد وفاته. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أن الإنسان لا بد له من الموت، وقال في كتابه العزيز: “وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِمْتَ وَهُمْ خَالِدُونَ” (الأنبياء: 34). ومع أن دفن الميت في حد ذاته أمر ثابت في الشريعة الإسلامية، إلا أن مسألة بناء القبر وتصميمه تعد من المواضيع التي اختلف فيها العلماء.

1. القبر البسيط والمستوي

من أبرز ما ورد في السنة النبوية الشريفة هو أن القبر يجب أن يكون بسيطًا وغير مزخرف، كما ورد في الحديث الذي رواه الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت، أخذ في تراب القبر بيديه، ثم قال: اللهم هذا قبرنا، اللهم اغفر له” (صحيح مسلم). يشير هذا الحديث إلى أن القبر لا يجب أن يكون عميقًا أو مرتفعًا، بل يجب أن يكون مستويًا وغير مزخرف.

ورغم ذلك، فإن بناء القبر بشكل مستوي لا يعني أن القبر يجب أن يكون مهملًا. فمن المستحب أن يتم تجهيز القبر بشكل يعكس الاحترام للميت وضرورة العناية به.

2. بناء القبور وتشييد الأضرحة

إن التشييد المفرط للقبور وتزيينها يعد من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور وتزيينها بشكل مبالغ فيه، حيث قال: “لا تُشِيدُوا القُبورَ، ولا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا” (صحيح مسلم). في هذا الحديث، يظهر أن البناء المبالغ فيه على القبر أو تجميله يندرج تحت الأفعال المنهي عنها في الشريعة الإسلامية.

إلا أن هذا لا يعني أن القبر يجب أن يكون مجرد حفرة في الأرض، بل يمكن أن يكون هناك تمييز بسيط للقبر كأن يُوضع له حجر صغير أو علامة تميز موقعه دون تشييد أو زخرفة مفرطة. ويستند هذا الرأي إلى ما ورد في السنة من دفن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث كانت القبور بسيطة دون مبالغة في بنائها.

3. حكم بناء القبور في بعض البلدان الإسلامية

في بعض البلدان الإسلامية، قد يكون من الشائع بناء أضرحة مزخرفة أو حتى مساجد حول القبور. إلا أن هذا الفعل غالبًا ما يُعتبر مخالفًا للنهج الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نهج البساطة. بناء القبور في شكل أضرحة قد يؤدي إلى المبالغة في تعظيم الشخص المتوفى، وهذا قد يفضي إلى نوع من الشرك أو الغلو في الدين، وهو ما حذر منه الإسلام بشدة.

فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر، يقول: “اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد” (صحيح مسلم). وهذا الحديث يحذر من تعظيم القبور بشكل يؤدي إلى عبادة أهلها، وهو أمر كان شائعًا في بعض المجتمعات الوثنية قبل الإسلام.

4. مواقف العلماء من بناء القبور

أ) المذهب الحنبلي

يُعتبر المذهب الحنبلي من أكثر المذاهب الفقهية تشددًا في مسألة البناء على القبور. حيث يرى العلماء في هذا المذهب أن بناء القبر وتشييده بما يتجاوز الحد الأدنى من التعريف بالمكان هو أمر محرم. وقد استندوا إلى ما جاء في الحديث النبوي الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال: “لعن الله من بنى على القبر” (صحيح مسلم). بناءً على ذلك، فإن بناء القبور في شكل أضرحة أو مبانٍ مزخرفة يُعد أمرًا مكروهًا أو محرمًا حسب ما ورد في كتب الفقه الحنبلي.

ب) المذهب الشافعي

أما في المذهب الشافعي، فهناك تفاوت في الآراء بين العلماء، حيث يرى بعضهم أن البناء على القبور يمكن أن يكون جائزًا إذا كان هدفه هو تمييز القبر وحمايته من التعرض للتلف. بينما يرى البعض الآخر أن هذا الأمر محرم أيضًا إذا كان يؤدي إلى الغلو في تعظيم صاحب القبر.

ج) المذهب المالكي

يختلف الفقه المالكي قليلاً عن المذاهب الأخرى في أن بناء القبور قد يُقبل في حال كان القبر يقع في مكان صعب الوصول إليه أو في حالة الحاجة لحمايته من العوامل البيئية. ومع ذلك، لا يُسمح بأي نوع من أنواع الزخرفة المبالغ فيها أو البناء الذي قد يؤدي إلى تكريس نوع من العبادة أو التقديس للأموات.

د) المذهب الحنفي

في المذهب الحنفي، هناك مرونة أكبر في التعامل مع بناء القبور. حيث يمكن بناء القبر بشكل يتناسب مع الحفاظ على كرامة الميت وتيسير زيارته، ولكن هذا يجب أن يتم بشكل لا يخرج عن حدود الشريعة. ويجدر بالذكر أن هناك بعض العلماء في هذا المذهب الذين يشددون على أن البناء المبالغ فيه على القبور لا يتماشى مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

5. بناء القبور في العصر الحديث

في العصر الحديث، تتزايد أعداد القبور المزخرفة والمباني التي تُشيد حول القبور في العديد من الدول الإسلامية. وتتنوع أشكال هذه القبور من حيث الحجم والتصميم، حيث يتم إضافة التماثيل والآيات القرآنية والرسوم التزيينية عليها. وعلى الرغم من أن هذه الممارسات قد تكون ذات طابع ثقافي أو اجتماعي، إلا أنها تثير العديد من الانتقادات من العلماء الذين يرون في ذلك مخالفة للنهج الذي أُمر المسلمون باتباعه فيما يخص دفن الموتى.

وقد دعت بعض الحكومات الإسلامية إلى إزالة هذه الأضرحة الزخرفية والبناء البسيط للقبور، مراعية في ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهج البساطة.

6. المواقف القانونية والدينية المعاصرة

في بعض البلدان الإسلامية، فرضت السلطات قوانين تنظم عملية بناء القبور، وتنص على أن القبور يجب أن تبقى بسيطة وغير مزخرفة. في حين أن هناك دولًا أخرى لم تحدد قوانين صريحة ولكنها تعتمد على التأويل الفقهي الذي يحظر البناء المبالغ فيه على القبور.

تسعى هذه القوانين إلى تجنب الخرافات والطقوس التي قد تؤدي إلى شرك أو إلى المبالغة في تعظيم الموتى، خاصة في ظل التحديات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة التي جعلت الكثير من الناس يميلون إلى بناء أضرحة فخمة وزخرفتها بشكل يتجاوز الحدود.

الخلاصة

إن حكم بناء القبر في الإسلام يتراوح بين المباح والمكروه والمحرم، اعتمادًا على كيفية تنفيذ ذلك بناءً على نصوص الشريعة الإسلامية. ومن الثابت أن الإسلام يحث على البساطة في قبور المسلمين، حيث لا يجوز بناء القبور بشكل مبالغ فيه أو تزيينها تزيينًا قد يؤدي إلى تعظيم الميت بشكل يتجاوز الحدود المقررة.