حكم المتنبي العميقة

من حكم المتنبي

يُعدُّ الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي من أبرز الشخصيات في تاريخ الأدب العربي، إذ كان له أثر بالغ في تطوير الشعر العربي في العصر العباسي وما بعده. وُلد المتنبي في الكوفة عام 915م، في وقت كان فيه العالم العربي يعاني من التوترات السياسية والاجتماعية، كما كان يعصف بالأمة الإسلامية العديد من التحديات على مختلف الأصعدة. ورغم هذه التحديات، كان المتنبي حريصًا على أن يكون صوته الأدبي أقوى من أي وقت مضى، ليظلّ إلى اليوم واحدًا من أكثر الشعراء تأثيرًا في الثقافة العربية.

حكم المتنبي لا تقتصر فقط على الشعر الذي كتبه، بل امتدَّت إلى مقولاته وأقواله الحكيمة التي ما زالت تتردد في الأوساط الثقافية والفكرية. كان المتنبي، بجانب كونه شاعرًا، فيلسوفًا صاحب رؤية عميقة للحياة والإنسانية، وله الكثير من الحكم التي تحمل بين طياتها معاني عظيمة عن الشجاعة، والكرامة، والحرية، وطموح الإنسان في سعيه للعيش بكرامة وعزة.

قوة الشخصية وكرامتها في حكم المتنبي

كانت الكرامة والشرف من الموضوعات المحورية في حياة المتنبي، وقد انعكست هذه القيمة في الكثير من حكمه وأشعاره. وُصف المتنبي بأنه كان رجلًا يعتز بذاته بشكل كبير، ويُفضّل الموت على المساس بشرفه أو كرامته. هذا الاعتزاز بالنفس تجسد في العديد من مقولاته، مثل قوله:

“على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ”،

حيث كان يرى أن العزيمة والتصميم هما أساس النجاح، وأن أصحاب الإرادة القوية هم الذين يحققون أحلامهم رغم كل العوائق التي قد تواجههم. هذه المقولة تتسق مع فلسفته في الحياة، حيث كان يؤمن أن الشخص يجب أن يسعى دائمًا للعلو والشرف مهما كانت التحديات.

لم يكن المتنبي يحب أن يُحتقر أو يُهان، بل كان يفضل دائمًا أن يكون في مقامٍ سامٍ وعالي، وهذه السمة في شخصيته انعكست بوضوح في مقولاته التي تحث على الاعتزاز بالنفس والاعتداد بالقدرات الشخصية. فقد قال في إحدى حكمه:

“إذا غامَرتَ في شرفٍ مرومِ

فلا تقنع بما دونَ النجومِ”،

وهي تعبير صريح عن الطموح العالي الذي كان يقدّره المتنبي ويحث عليه، حيث كان يعتبر أن السعي وراء الأهداف الكبيرة هو السبيل الوحيد لتحقيق الذات والنجاح.

الحكمة في مواجهة الصعاب

مرت حياة المتنبي بالكثير من المنعطفات الصعبة والمحن، بدايةً من حياته القاسية في صغره، مرورًا بحروبه مع حكام مختلفين، وصولًا إلى نفيه بعد أن كان يتمتع بشعبية واسعة في البلاط العباسي. ورغم ذلك، كان المتنبي دومًا يعبر عن رؤيته الثاقبة للحياة من خلال أفكاره وأشعاره التي ملأها بالحكمة والتأمل في معاني الوجود.

وقد قال في هذا السياق:

“ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركُه

تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ”،

وهذا البيت هو أحد أشهر أبيات شعره التي تجسد فلسفته حول تقلبات الحياة. فقد كان المتنبي يدرك أن الإنسان مهما كان عظيمًا، فإن الحياة مليئة بالمفاجآت والتحديات التي قد تخرج عن إرادته. لكن رغم ذلك، كان يراهن دائمًا على القوة الداخلية والقدرة على التكيف مع الصعاب والتغلب عليها.

حكم المتنبي عن الزمان والمكان

من أبرز المواضيع التي تناولها المتنبي في شعره وحكمه هي تلك التي تتعلق بالزمان والمكان، ومدى تأثيرهما في حياة الإنسان. فهو في كثير من الأحيان كان يعبّر عن حنينه إلى الماضي، لكنه كان أيضًا يدرك جيدًا أن الزمن لا يتوقف عند أحد. ففي إحدى أشهر حكمه عن الزمان قال:

“وإذا كانت النفوسُ كبارًا

تعبت في مرادها الأجسامُ”،

هذا البيت يعكس مدى تقديره للنفوس العظيمة التي لا تستسلم لمرارة الزمان، بل تواصل السعي نحو أهدافها رغم كل المصاعب.

كما تحدث المتنبي عن المكان وارتباطه بالكرامة والشرف، مبرزًا كيف يمكن للمكان أن يكون عاملًا في تحديد مصير الإنسان، لكنه في الوقت ذاته كان يؤمن بأن الإنسان العظيم يمكنه أن يصنع مكانه الخاص، وينحت من الزمان والمكان ما يناسب عظمته.

حكم المتنبي عن الناس والطبيعة البشرية

كان المتنبي على دراية عميقة بالطبائع البشرية، وامتاز بفهمه العميق للإنسان وطباعه، وهذا ما انعكس في الكثير من حكمه. لم يكن المتنبي يربط الحكمة بالأفراد فقط، بل كان يربطها أيضًا بتفاعلهم مع بعضهم البعض، ومقدار التأثير الذي يملكه الشخص في محيطه.

وهو في هذا الصدد قال:

“وإذا كانتِ القلوبُ بحكمٍ قُدِّرت

عجزتِ الأيدي عن إدراكِ ما تقدِّرُ”،

هنا، يلفت المتنبي النظر إلى حقيقة أن هناك أمورًا في الحياة لا يمكن إدراكها أو تغييرها بالقوة أو الجهد الشخصي، بل هي قضاء وقدر مرتبط بالقلوب والنوايا.

كما تحدث عن تجربة البشر مع الطيبة والخداع، فأشار في بعض مقولاته إلى أن الإنسان في كثير من الأحيان يواجه الخيانة والغدر من المقربين إليه، فقال:

“تصفُّقُ الدنيا وتصفُّقُ الحياة

وليسَ يهمُّ المرءُ حَزنهُ”،

وهذا يعكس فلسفته عن فشل الإنسان في البحث عن الطيبة الدائمة أو الصداقات الحقيقية، وأن الحياة مليئة بالخيبات والخذلان.

في الختام

تُعدُّ حكم المتنبي من الكنوز الأدبية التي لا تَفنى، وقد بقيت على مر العصور شاهدًا على عمق رؤيته للحياة وامتيازه في فهم الطبيعة البشرية. في شعره وأقواله حكم تُحاكي الواقع وتعبر عن الصراع المستمر بين الطموح والواقع، وبين الكرامة والمساومة. ورغم أن حياته كانت مليئة بالتحديات، فإنه كان دومًا يثبت أن الإرادة والعزيمة هما السبيل لتحقيق النصر الحقيقي، سواء في مجالات الشعر أو في الحياة العامة.