حكم الماء المستعمل في الفقه

مذاهب الفقهاء في حكم الماء المستعمل

إنَّ مسألة “حكم الماء المستعمل” تُعدّ من المسائل الخلافية التي تفرعت فيها أقوال الفقهاء، وتناولوها بالبحث الدقيق ضمن أبواب الطهارة في كتب الفقه، وذلك لأهمية هذه المسألة في معرفة ما يُجزئ في الطهارة وما لا يُجزئ، وما يجوز استعماله في رفع الحدث وإزالة النجس. وقد تناول العلماء هذا الموضوع من جهات متعددة، مثل: تعريف الماء المستعمل، وأحكامه، واستعماله في الطهارة، ومدى تأثير الاستعمال في رفع حكم الطهورية عنه.

تعريف الماء المستعمل

الماء المستعمل هو الماء الذي استُعمل في طهارة واجبة أو مستحبة، سواء كان ذلك في رفع الحدث (كغسل الجنابة أو الوضوء)، أو إزالة خبث (كالنجاسة)، أو كان في غسل مستحب (كغسل الجمعة). وقد يُقصد بالمستعمل الماء الذي باشر البدن وانفصل عنه بعد الاستعمال.

وقد فرّق العلماء بين نوعين من الماء المستعمل:

• الماء المستعمل في رفع الحدث: كمن توضأ أو اغتسل به.

• الماء المستعمل في إزالة النجاسة: وهو الذي أُريق على محل النجاسة فزالت به.

ولكل من هذين النوعين حكم فقهي خاص به، كما سيأتي.

أقوال الفقهاء في حكم الماء المستعمل

اختلف الفقهاء في حكم الماء المستعمل بعد انفصاله عن العضو، وهل يظل طهوراً يصح به رفع الحدث أم لا، وانقسموا في ذلك إلى عدة مذاهب رئيسية:

المذهب الأول: قول المالكية

يرى المالكية أن الماء المستعمل في رفع الحدث يظل طهورًا، ويجوز استعماله مرة أخرى في الطهارة، سواء كان الاستعمال في فرض أو نفل، طالما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة. ويستدل المالكية بأن الأصل في الماء الطهارة، وأن استعماله لا يسلبه صفة الطهورية، ما لم يتغير.

ويُفرق المالكية بين استعمال الماء في الطهارة واستعماله في إزالة النجاسة. فإن استُعمل في إزالة النجاسة، وكان قد طُرح على موضع نجس ولم يتغير، فإنه يكون طاهرًا غير مطهر، أي يجوز استعماله في غير الطهارة.

ويُستأنس في هذا المذهب بما رواه مالك في “الموطأ” عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

“لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب”، ففهم منه المالكية أن النهي لا يعود إلى نجاسة الماء، وإنما إلى كون ذلك مفضيًا إلى أذى الآخرين أو تغير الماء.

المذهب الثاني: قول الحنفية

يرى الحنفية أن الماء المستعمل لا يظل طهورًا، بل يفقد صفة الطهورية ويصبح طاهرًا غير مطهر. ويعللون ذلك بأنه خرج عن كونه “ماء مطلقًا” وأصبح “ماء مستعملًا” فلا يُجزئ في رفع الحدث، لكنه لا يكون نجسًا، ويجوز استعماله في غير الطهارة، كتنظيف الأشياء أو الاستعمال العادي.

ويستند الحنفية إلى ما رواه عبد الله بن سرجس:

“نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غمس الجنب في الماء الدائم”، ويُفهم منه عندهم أن الماء الذي لامس بدن الجنب وفصل عنه يُصبح غير صالح لرفع الحدث مرة أخرى، وأن النهي إنما هو لاختلاط الماء المستعمل بالماء غير المستعمل.

ويُفرّق الحنفية أيضًا بين القليل والكثير:

• فالماء القليل إذا استُعمل، فقد طهوريته.

• أما الماء الكثير (الذي يبلغ حوضه قدر القلتين أو أكثر)، فلا يسلبه الطهورية إلا إذا تغير أحد أوصافه (اللون أو الطعم أو الرائحة).

المذهب الثالث: قول الشافعية

يرى الشافعية أن الماء المستعمل في رفع الحدث لا يظل طهورًا مطهِّرًا، بل يصبح طاهرًا غير مطهر، ولا يجوز استعماله مرة أخرى في رفع الحدث. واستدلوا على ذلك بأن الاستعمال يسلب الماء وصف الإطلاق، وهو شرط لصحة الطهارة.

لكنهم يفرّقون بين أنواع الاستعمال:

• إن استُعمل في البدن بقصد العبادة (كالوضوء أو الغسل) فإنه يفقد الطهورية.

• أما إن لم يُستعمل في رفع الحدث، ولم يقع على البدن بنية العبادة، فيظل طهورًا.

ويُبنى هذا القول على اشتراط “الماء المطلق” في الطهارة، وأن المستعمل لا يُعد مطلقًا لتقيُّده بالاستعمال السابق.

وذكر النووي في “روضة الطالبين” أن الماء إذا انفصل عن أعضاء المتوضئ فإنه لا يصح الوضوء به بعد ذلك، لكنه طاهر يجوز استعماله في غير الطهارة، كالشرب وسقي الزرع.

المذهب الرابع: قول الحنابلة

الحنابلة يُشابهون الشافعية في قولهم بأن الماء المستعمل في رفع الحدث لا يجوز استعماله مرة أخرى في الطهارة، لكنه طاهر، وليس بنجس.

واستدلوا بعدة أحاديث، منها ما جاء في “مسند أحمد”:

“لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب”، واعتبروا أن هذا الحديث يدل على أن الاستعمال يسلب الماء الطهورية.

لكن الحنابلة يُفرّقون بين الماء المستعمل المتصل بالبدن والماء المنفصل عنه:

• فالماء المتصل لا يؤثر، كأن يغتسل المرء في إناء ولا ينفصل الماء.

• أما الماء المنفصل، فمتى انفصل عن العضو بعد الاستعمال، فقد الطهورية.

ويُعد هذا المذهب من أشد المذاهب تشددًا في هذه المسألة، وخصوصًا عند من يعتبر أن طهارة الماء شرط لازم للطهارة الشرعية.

الفرق بين الماء الطهور والطاهر والمستعمل

لأهمية هذا الموضوع، يمكن توضيح الفرق بين الأنواع الثلاثة في جدول ملخص:

الاتجاه الحديث لدى بعض العلماء

في العصر الحديث، ظهرت آراء فقهية تميل إلى التيسير، خصوصًا مع الحاجة إلى ترشيد استهلاك الماء، وندرة المياه في بعض المناطق، فتوجه بعض العلماء المعاصرين إلى القول بعدم سلب الماء الطهورية لمجرد الاستعمال، ما لم يتغير أحد أوصافه.

ويُستأنس في هذا بقاعدة:

“الأصل في الأشياء الطهارة حتى يثبت خلافها”، وهي قاعدة معتبرة في الفقه، وتُرجحها الضرورة أحيانًا في الظروف البيئية والصحية.

أثر هذا الخلاف في التطبيق العملي

هذا الخلاف ليس مسألة نظرية فقط، بل له أثر تطبيقي واسع، يتجلى في الحالات التالية:

1. الوضوء الجماعي: كأن يتوضأ عدة أشخاص من إناء واحد، ويُصب الماء على أعضائهم ثم يعود إلى الإناء. فهل يجوز استعماله مجددًا؟ يختلف الحكم حسب المذهب.

2. غسل الجنابة في الحياض والبرك: هل يجوز أن يغتسل الجنب في بركة ماء ثم يُعيد آخرون استعمالها؟

3. إعادة استخدام المياه الرمادية: في المجتمعات الحديثة يُعاد استعمال الماء المنفصل عن الغسل في بعض الاستخدامات المنزلية، ويُطرح السؤال هل هذا جائز شرعًا في الطهارة؟

الخلاصة

يتبين أن الماء المستعمل يُعد من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء، وانقسموا بين من يرى أنه يفقد صفة الطهورية (كالشافعية والحنابلة)، ومن يرى أنه يظل طهورًا ما لم يتغير (كالمالكية وبعض المتأخرين)، ومن يرى أنه طاهر غير مطهر (كالحنفية).

ويبقى القول المرجح متوقفًا على مراعاة الأدلة والنصوص، والاعتبارات الفقهية، والبيئية، والواقعية المعاصرة. كما يجب أن يُفهم هذا الخلاف في ضوء مقاصد الشريعة التي تهدف إلى التيسير ورفع الحرج، خاصة في الأحكام المتعلقة بالطهارة التي يُبنى عليها الكثير من العبادات كالصلاة.

المراجع:

1. “الفقه الإسلامي وأدلته” – وهبة الزحيلي.

2. “المجموع شرح المهذب” – النووي.