حكم التورك والافتراش في الصلاة
من الأحكام الفقهية التي تتعلق بآداب الصلاة، والتي يتناولها علماء المسلمين في كتبهم الفقهية المختلفة، موضوع التورك والافتراش. يعتبر هذان الأمران من سنن الصلاة التي قد لا يدرك الكثير من المصلين حكمهما، أو قد يلتبس عليهما الأمر بين السنية والوجوب. في هذا المقال، سنتناول شرحًا دقيقًا لهذا الموضوع من خلال تسليط الضوء على تعريف التورك والافتراش، الفرق بينهما، الحكم الفقهي المرتبط بكل منهما، ومذاهب العلماء في ذلك، مع الأدلة الشرعية التي تدعم الآراء الفقهية.
1. تعريف التورك والافتراش
1.1. التورك
التورك في الصلاة هو أن يضع المصلي فخذَه على فخذِه في جلوس التشهد الأخير، مع ضم ساقه إلى الأرض، وتوجيه قدمه إلى جهة اليسار. وفي هذا الوضع يضع المصلي يده اليمنى على فخذه اليمنى، أما اليد اليسرى فتوضع على فخذه اليسرى، ويجلس في هذا الوضع بشكل كامل حتى ينتهي من التشهد الأخير.
1.2. الافتراش
الافتراش في الصلاة يعني أن يفرش المصلي قدمه اليسرى على الأرض في جلوس التشهد الأول (أو الأولي)، مع بسط ساقه اليسرى إلى الأرض، ورفع ساقه اليمنى، حيث يضع راحة قدمه اليمنى على ساقه اليسرى، وينصب إصبع قدمه اليمنى باتجاه القبلة. يعتبر الافتراش من الجلوس المميز في الصلاة والذي يتميز بكونه أكثر توسعًا واستقرارًا مقارنة بوضعية التورك.
2. حكم التورك والافتراش في الصلاة
2.1. الافتراش في التشهد الأول
اتفق جمهور العلماء على أن الافتراش في التشهد الأول من الصلاة هو من السنة المؤكدة. ففي الحديث النبوي الذي ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة يجعل قدمه اليسرى تحت فخذِه وساقِه، ويثني اليمنى» (رواه مسلم).
ومن هذا الحديث، يظهر بوضوح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرش قدمه اليسرى في الجلوس الذي يحدث في التشهد الأول، ما يجعل الافتراش سنة مستحبة في هذه المرحلة من الصلاة. كما أن الفقهاء أجمعوا على أن الجلوس في التشهد الأول لا يتأثر إلا إذا جلس المصلي على غير الوضع المأثور، فذلك يبطل الصلاة.
2.2. التورك في التشهد الأخير
أما فيما يتعلق بالتورك في التشهد الأخير، فقد اختلف العلماء في حكمه بين الوجوب والاستحباب، لكن الرأي الراجح عند معظم الفقهاء هو أن التورك في التشهد الأخير يعد من السنة المؤكدة في الصلاة. ويدل على ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس في آخر الصلاة تورك» (رواه البخاري).
التورك في التشهد الأخير يعني أن يضع المصلي ساقه اليسرى على الأرض، ويجلس عليها، في حين أن ساقه اليمنى تكون مرفوعة على قدمه اليسرى. ومن هنا نجد أن الفقهاء قد أوجبوا التورك في التشهد الأخير استنادًا إلى الحديث النبوي الصحيح، وتأكيدًا على أنه جزء من آداب الصلاة التي كان يؤديها النبي صلى الله عليه وسلم.
3. الاختلاف بين الافتراش والتورك في الصلاة
تكمن أهم الفروقات بين التورك والافتراش في نوع الجلوس واستخدام الساقين والقدميْن. في الافتراش، يكون الجلوس على القدم اليسرى، بينما ترفع الساق اليمنى ويستقر على القدم اليسرى. أما في التورك، فإن المصلي يجلس على ساقه اليسرى مع توجيه قدمه اليمنى إلى الأسفل.
من جهة أخرى، يشير الفقهاء إلى أنه لا يمكن الخلط بين الافتراش والتورك، إذ يعتبر الافتراش محصورًا في الجلوس في التشهد الأول، بينما يكون التورك مقتصرًا على الجلوس في التشهد الأخير. يجسد ذلك تمايزًا واضحًا في آداب الصلاة واختلافًا في طريقة الجلوس بين مراحل الصلاة.
4. الآراء الفقهية حول التورك والافتراش
4.1. الشافعية والحنابلة
من الملاحظ أن الشافعية والحنابلة يتفقون على أن التورك في التشهد الأخير سنة مؤكدة، إذ يثني الساق اليسرى ويجلس عليها، في حين ترفع القدم اليمنى، مع توجيه أصابعها نحو القبلة. على الرغم من أن بعضهم يرى أن الجلوس في هذه الوضعية يكون أقرب إلى التواضع والانكسار بين يدي الله، ويزيد من خشوع المصلي في الصلاة.
أما بالنسبة للافتراش، فيعتبره الشافعية والحنابلة أيضًا سنة مؤكدة في التشهد الأول، ويجب أن يتم تنفيذ هذا الجلوس في هذا الموضع لتكون الصلاة صحيحة.
4.2. المالكية والحنفية
المالكية والحنفية قد لا يوجبون التورك في التشهد الأخير، ويكتفون بالافتراش فقط في التشهد الأول. إذ يرون أن التورك في التشهد الأخير ليس من الأركان التي يمكن أن تبطل الصلاة في حال تركها، بل هو مجرد سنة مستحبة تزيد من أكمل الصلاة. بينما يعتبرون الافتراش من السّنن المتفق عليها في التشهد الأول، ويعتقدون أنه لا يمكن التخلي عنه.
5. أدلة الفقهاء على حكم التورك والافتراش
5.1. الحديث النبوي الشريف
كما ذكرنا في البداية، يعتبر الحديث النبوي أساسًا للأحكام المتعلقة بالتورك والافتراش. ففي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الذي جاء فيه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة يجعل قدمه اليسرى تحت فخذِه وساقِه، ويثني اليمنى»، نجد إشارات واضحة إلى كيفية الجلوس في الصلاة.
5.2. قوله صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي”
هذا الحديث يدل على أن جميع أفعال الصلاة، من طريقة الجلوس إلى باقي الحركات، يجب أن تكون على نفس النحو الذي كان يؤديه النبي صلى الله عليه وسلم. لذا، فإن الافتراش في التشهد الأول والتورك في التشهد الأخير يُعدان من السنة النبوية التي يجب اتباعها.
6. التورك والافتراش في الصلاة: أهمية في تعزيز الخشوع
إن التورك والافتراش لا يعدان مجرد سنن شكلية، بل هما من العوامل التي تساهم في تعزيز الخشوع والسكينة أثناء الصلاة. إذ من خلال الجلوس بهذه الأوضاع، يشعر المصلي بقربه من الله عز وجل وتوكله عليه، مما يعمق معاني الصلاة في قلبه. كما أن التورك في التشهد الأخير، خاصة، يعكس أكثر حالات التواضع والانكسار بين يدي الله، وهو من أوقات الصلاة التي يستشعر فيها المسلم أقرب لحظة له مع الله.
7. خاتمة
إن التورك والافتراش هما من السنن النبوية في الصلاة التي يتعين على المسلم الالتزام بهما. تختلف الآراء الفقهية حول وجوب التورك في التشهد الأخير، لكن جميعها تتفق على استحبابه في تعزيز خشوع المصلي ورفع مقامه. من خلال فهم هذه الأحكام والعمل بها، يتعمق المسلم في أداء عبادته، ويستشعر معانيها العميقة التي تهدف إلى تقوية العلاقة مع الله.
