حكمة مشروعية الحج والعمرة

الحكمة من مشروعية الحج والعمرة

يُعدّ الحج والعمرة من أعظم الشعائر التعبدية التي شرعها الله تعالى لعباده المسلمين، وجعل لهما مكانة متميزة في المنظومة التشريعية الإسلامية، باعتبارهما من أعمدة الإسلام الكبرى، وقد تجلّت في مشروعيتهما حكمٌ بالغة، روحية وتربوية واجتماعية واقتصادية، تتناغم مع مقاصد الشريعة الغراء في تهذيب النفس، وتزكية القلب، وتوحيد صفوف الأمة، وتحقيق العبودية الخالصة لله وحده.

أولًا: تأصيل المشروعية في النصوص الشرعية

الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، وقد ثبتت مشروعيته في الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى:

﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27]،

وقال أيضًا: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]،

أما العمرة، فقد جاء في الحديث الصحيح: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” (رواه البخاري ومسلم).

وهذا التأصيل يُبيّن أن الحج والعمرة ليستا مجرد طقوس تقليدية، وإنما عبادات عظيمة أودع الله فيهما أسرارًا تربوية وتكليفية تحقق للفرد والمجتمع غايات عليا تتصل بالتوحيد والسلوك والعلاقات الإنسانية.

ثانيًا: الحكمة التوحيدية والتربوية

من أبرز الحكم التي تتجلى في مشروعية الحج والعمرة ترسيخ عقيدة التوحيد، حيث يُكرر الحاج والمعتمر تلبية موحدة لله: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك”، وهذه الكلمات لا تُردد فحسب، بل تُرسّخ معاني الخضوع والانقياد الكامل لله وحده، وتُجدد ميثاق العبودية الذي تترجمه الجوارح قولًا وفعلاً خلال هذه الرحلة المباركة.

وتمثل مناسك الحج والعمرة أيضًا مدرسة تربوية شاملة، تبدأ من لحظة الإحرام، حيث يتجرد الإنسان من ملبسه المعتاد ليلبس رداءً واحدًا مع سائر الناس، رمزًا للمساواة، وتمر بتدريب النفس على الصبر، والتسامح، وكظم الغيظ، والابتعاد عن الجدال، قال تعالى: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197].

كما أن الطواف، والسعي، ورمي الجمرات، والوقوف بعرفة، كلها شعائر تعبدية تُعيد صياغة الإنسان من الداخل، وتُربي فيه معاني الخضوع لله، والانضباط، والسمو الأخلاقي، وتمنحه فرصة للتوبة والإنابة وتزكية النفس وتطهير القلب من الشهوات والضغائن.

ثالثًا: الحكمة الاجتماعية من مشروعية الحج والعمرة

يُعدّ الحج مؤتمرًا إسلاميًا عالميًا، تتجلى فيه وحدة الأمة الإسلامية بجميع مكوناتها العرقية واللغوية والثقافية، حيث يجتمع الناس على صعيد واحد، بلباس واحد، وغاية واحدة، ومناسك موحدة، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، مما يُعزز مفاهيم الأخوة والمساواة والتراحم، ويكسر الفوارق الطبقية والمادية.

كما أن هذا اللقاء السنوي بين المسلمين يعزز التواصل والتعارف بين الشعوب، ويُتيح فرصة لتبادل الخبرات، ونقل المعارف، وتحقيق التضامن في القضايا المشتركة، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: 28]، وهذه المنافع تشمل المعنوية والدنيوية، ولا سيما في ميادين الإصلاح، والدعوة، والتوجيه، والتعاون بين العلماء والقادة والمصلحين.

رابعًا: الحكمة الاقتصادية والتنموية

في إطار المقاصد العامة للشريعة، يتجلّى في مشروعية الحج والعمرة بعد اقتصادي مهم، فقد نصّت الآية الكريمة على المنافع، ومن هذه المنافع ما هو اقتصادي وتنموي، حيث يُعدّ موسم الحج فرصة لتنشيط حركة التجارة وتدوير رأس المال، وقد استفاد من ذلك التجار والحرفيون والنقّالون والمزارعون ومختلف قطاعات الخدمات، وهو ما أسماه علماء الاقتصاد بـ”الدورة الموسمية الاقتصادية”.

وللحج أثر مباشر في إعادة توزيع الثروات، إذ يدفع الأغنياء تكاليف الحج بما يعود على الاقتصاد المحلي بالنفع، كما يساهم الحجاج في دعم المؤسسات الخدمية والمشاريع الخيرية، ويعودون غالبًا بنظرة أكثر وعيًا بقضايا الفقر والحاجة، ما يحفزهم على دعم مجتمعاتهم بالأعمال الصالحة.

خامسًا: الحكم الصحية والنفسية

أشارت دراسات معاصرة إلى فوائد صحية ونفسية لمناسك الحج والعمرة، فالمشي أثناء الطواف والسعي والتنقل بين المشاعر المقدسة يمثل نشاطًا بدنيًا مفيدًا للقلب والدورة الدموية، كما أن الجو الإيماني والروحاني يُسهم في تقليل معدلات القلق والاكتئاب، ويُعزز الشعور بالسكينة والطمأنينة.

وقد أثبتت أبحاث ميدانية أُجريت على الحجاج والمعتمرين حدوث تحسن ملحوظ في الصحة النفسية والعاطفية بعد أداء المناسك، نتيجة الاتصال الروحي القوي بالله، والتخلص من الذنوب، واستشعار القرب من الخالق، مما ينعكس على السلوك والأداء الوظيفي بعد العودة.

سادسًا: الحكمة التاريخية والروحية في إحياء شعائر الأنبياء

الحج والعمرة يُمثلان ربطًا مباشرًا بالأنبياء، خصوصًا إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل، فقد أمر الله إبراهيم برفع قواعد البيت، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج، وتُحيى في مناسك الحج والعمرة ذكريات عظيمة كمشهد السعي بين الصفا والمروة تأسّيًا بهاجر، ورمي الجمرات تذكيرًا بمقاومة وسوسة الشيطان، والنحر إحياءً لسنة الفداء.

كل ذلك يُعيد للمسلم الارتباط التاريخي بأصل الدين، ويمنحه شعورًا بالانتماء إلى سلسلة النبوة، ويعزز لديه القيم الكبرى التي ناضل من أجلها الأنبياء، وهي التوحيد، والعدل، والرحمة، والتضحية، والإخلاص.

سابعًا: الحج والعمرة وسيلة لتجديد العهد مع الله

من حكم مشروعية الحج والعمرة أيضًا أنهما وسيلة عملية لتجديد العهد مع الله تعالى، والانخلاع من الذنوب والمعاصي، والانطلاق نحو حياة جديدة ملؤها التوبة والاستقامة. وقد ورد في الحديث: “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” (رواه البخاري ومسلم)، وهي فرصة نادرة في عمر المسلم، تُعيد له النقاء والصفاء الروحي، وتحرره من أثقال الذنوب والانشغالات الدنيوية.

جدول يوضح أوجه الحكمة من مشروعية الحج والعمرة

خاتمة تحليلية

إن مشروعية الحج والعمرة تتجاوز مجرد أداء المناسك الظاهرة إلى كونها محطة روحية وتربوية واجتماعية واقتصادية متكاملة، تُعيد للإنسان المسلم توازنه الداخلي، وتُحيي فيه القيم العليا التي يريد الإسلام ترسيخها في الفرد والمجتمع. وما من ركن في هذه الشعائر إلا ويُخفي وراءه حِكمًا بالغة تتناغم مع فطرة الإنسان واحتياجاته المتعددة، في تجلٍ واضح لرحمة الله بالشريعة وكمالها.

المصادر

1. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري

2. ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد