حكمة عصمة الرسل في الإسلام

عصمة الرسل: الحكمة والأبعاد التشريعية والعقائدية

إن العصمة واحدة من أبرز الصفات التي اتصف بها الرسل والأنبياء، وتشكل ركيزة أساسية في فهم النبوة والرسالة ضمن العقيدة الإسلامية. وتعني العصمة أن الأنبياء والرسل مصونون من الوقوع في المعاصي والذنوب، ومن الخطأ في تبليغ الوحي عن الله سبحانه وتعالى. فهي ليست مجرد فضيلة أخلاقية، بل ضرورة شرعية وعقلية تحفظ الدين، وتصون الرسالة، وتضمن الثقة التامة في مصدرها. ومن هنا، فإن بحث “الحكمة من عصمة الرسل” يتطلب تسليط الضوء على أبعاد شتى: عقدية، تشريعية، تربوية، ونفسية، توضح لماذا كان لا بد أن يكون الرسل معصومين، وما النتائج المترتبة على هذه العصمة في واقع الرسالة وغايتها.

أولاً: تعريف العصمة وأقسامها

العصمة في اللغة تعني المنع والحماية. أما في الاصطلاح العقدي، فالعصمة تعني حفظ الله للرسل من الخطأ والزلل في تبليغ الرسالة، ومن الكبائر وسائر المعاصي، بل ومن الصغائر على القول الراجح، ومن الأمور التي تنفر الطباع السليمة عنهم، كالأخلاق المذمومة والتصرفات الشاذة.

وتنقسم العصمة بحسب ما يحفظ الله به الرسل إلى:

1. العصمة في التبليغ: وهي أهم أنواع العصمة، وتدل على أن الرسل لا يمكن أن يخطئوا أو يكتموا شيئاً من وحي الله، أو يضيفوا إليه من أنفسهم، سواء كان ذلك بقصد أو بدون قصد.

2. العصمة من الكبائر: أي أن الرسل لا يرتكبون المعاصي العظيمة التي تشين مقامهم وتقدح في عدالتهم ومكانتهم كموجهين.

3. العصمة من الصغائر المنفرة: وهي الصغائر التي لو فعلها إنسان عادي لاستُهجن، فما بالك بمن يُقتدى به ويُؤخذ عنه الدين.

4. العصمة من الأخطاء في الأمور الدنيوية: وهذا محل خلاف بين العلماء، فبعضهم يرى أن الرسل قد يجتهدون ويخطئون في الأمور الدنيوية غير المرتبطة بالوحي، إلا أن الله يصوّبهم فورًا ولا يقرهم على الخطأ.

ثانياً: الحكمة التشريعية من عصمة الرسل

تقوم الرسالات السماوية على مبدأ الوحي الإلهي الذي يُبلّغه رسول يوحى إليه من الله. ولما كان الوحي هو المصدر الوحيد للمعرفة الشرعية الصحيحة، كان لا بد من ضمان نقل هذا الوحي نقلاً خالياً من التحريف أو الزيادة أو النقصان، وهو ما تحققه عصمة الرسل.

• ضمان صدق البلاغ الإلهي: لولا العصمة، لكان في الإمكان أن يُتهم النبي بالكذب أو التحريف، وهو ما يُفقد الناس الثقة في الوحي. فالعصمة هنا تمثل الحماية التشريعية الكاملة للرسالة من العبث أو الاشتباه.

• الاقتداء الشرعي: المسلمون مأمورون باتباع الرسل، كما قال تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ [الأحزاب: 21]. فلو كان الأنبياء يقعون في المعاصي أو الكبائر، لفتح ذلك الباب للناس للاقتداء بالمنكر، مما يؤدي إلى فساد التشريع وخلل في الالتزام الديني.

• العدالة المطلقة في الحكم والفتوى: كانت حياة الرسل تتضمن إقامة الشرائع، والحكم بين الناس، والتعليم والتوجيه، وكل هذه المهام لا يصح أن يتولاها إلا من كان معصوماً من الهوى، وصاحب بصيرة ربانية في الحكم بين الناس بالحق، بلا ميل أو انحراف.

ثالثاً: الحكمة العقدية والإيمانية من عصمة الرسل

إن العقيدة الإسلامية تقوم على يقين مطلق بأن الدين الذي جاء به الأنبياء هو من عند الله، وأنه محفوظ في أصوله ونصوصه. وهذا لا يتحقق إلا بعصمة الرسل.

• ثبات العقيدة وسلامة المصدر: لو أمكن أن يقع الرسل في خطأ عقدي، لكان الدين معرضًا للفساد. لذا فإن عصمتهم من التحريف العقدي تحفظ الإيمان من الضياع والتشوه.

• الثقة بالنبي كمصدر تشريعي: إذا لم يكن الرسول معصومًا، لكان اتباعه خاضعًا للظن والاحتمال، وهو ما ينافي جوهر العقيدة التي تطالب المسلم باليقين والثقة الكاملة بمصدر الدين.

• حفظ مكانة النبوة: لا يمكن أن يكون نبي الله محل اتهام أو تشكيك من قبل أتباعه أو خصومه، وإلا فقدت الرسالة هيبتها وتأثيرها. ولذلك، فإن العصمة تحفظ مقام النبوة من كل ما يشينه في أنظار الناس.

رابعاً: الحكمة التربوية والنفسية من عصمة الرسل

عصمة الأنبياء لم تكن لحمايتهم فقط، بل كانت وسيلة من وسائل التربية الإيمانية للمؤمنين، ودافعًا للثقة والاطمئنان الداخلي.

• تعزيز النموذج الأخلاقي الكامل: المسلم ينظر إلى النبي على أنه النموذج المثالي في السلوك، والتعامل، والخلق، والعبادة، والمعاملة، والصبر، والجهاد. فلو لم يكن النبي معصومًا، لما أمكن بناء نموذج تربوي موثوق.

• دفع الشكوك والتشويش النفسي: كثير من الشبهات التي يثيرها أعداء الدين تستند إلى تشويه صورة الرسل. فالعصمة هنا بمثابة حاجز نفسي وروحي يمنع تسلل هذه الشكوك إلى قلب المؤمن.

• ضمان صفاء العلاقة بين المكلِّف والمكلَّف: العصمة تجعل النبي واسطة صادقة خالية من الشوائب بين الله وعباده، مما يولّد الطمأنينة في نفوس المؤمنين.

خامساً: العصمة في ضوء الواقع النبوي والتاريخ الرسالي

لم تكن العصمة مجرد صفة تجريدية، بل ظهرت آثارها في حياة الأنبياء بكل وضوح. فقد كانت سيرتهم خالية من الكذب، والغدر، والظلم، والفحش، والشهوات المنحطة. ولم يُعرف عن نبي من الأنبياء أنه خان الأمانة، أو افترى على الناس، أو ظلم أحدًا.

• سيرة النبي محمد ﷺ مثلًا، كانت أنموذجًا عمليًا للعصمة. فقد اشتهر بين قومه بالصدق والأمانة، حتى قبل البعثة. وبعد الرسالة، لم يُنقل عنه كذب في القول، أو خيانة في التبليغ، أو ميل لهوى في الحكم. فكان بهذا محط الثقة لكل من عرفه.

• تجليات العصمة في المواقف العملية: مثل امتناع النبي ﷺ عن الانتقام لنفسه، أو وقوعه في الخطأ غير المقصود مثل اجتهاده في أسرى بدر، حيث نزل الوحي بتصويبه. وهذا يدلل على أن العصمة لا تعني غياب الاجتهاد، بل تعني أن الله لا يقر النبي على الخطأ.

سادساً: العصمة بين العقل والنقل

العقل الصريح لا يجد مانعًا في القول بعصمة الرسل، بل يرى ذلك ضرورة عقلية لحفظ الدين وضمان صلاحية القدوة. والنقل من القرآن الكريم والسنة النبوية يثبت هذه العصمة في مواضع متعددة، منها:

• ﴿وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى﴾ [النجم: 3-4]

• ﴿ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين﴾ [الحاقة: 44-46]

وهذه الآيات تؤكد أن النبي لا يمكن أن يقول على الله ما ليس بحق، وأن الله لو علم منه خيانة في التبليغ، لأهلكه. فالعصمة ليست مجرد تكريم، بل هي شرط في استمرار النبوة وصدقها.

سابعاً: العصمة لا تعني الألوهية

من المهم أن نفهم العصمة ضمن إطارها الشرعي، فهي لا تعني أن النبي فوق البشر من حيث الطبيعة، وإنما هو بشر معصوم بوحي الله وحفظه. قال تعالى: ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ﴾ [الكهف: 110].

فالأنبياء يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويمرضون، ويموتون، ويشعرون بالحزن والفرح، لكنهم لا يخطئون في تبليغ الدين، ولا يرتكبون ما يشين مقامهم أو يقلل من مصداقيتهم.

جدول يوضح أوجه العصمة ومجالاتها

ثامناً: أثر الإيمان بعصمة الرسل في بناء الوعي الديني

الإيمان بعصمة الرسل ليس مسألة نظرية، بل ينعكس على بنية الإيمان وتشكيل الوعي الديني للمسلم، حيث يولد:

• ثقة لا تتزعزع في الدين وتعاليمه

• احترامًا عميقًا للنبي وطاعته

• حذرًا من قبول أي طعن أو تشويه في سيرة النبي

• التزامًا صادقًا باتباع السلوك النبوي كأكمل منهج حياة

المصادر والمراجع

1. ابن تيمية، النبوات

2. الطحاوي، العقيدة الطحاوية وشرحها لابن أبي العز