إن من الشعر لحكمة: عمق البلاغة وجلال الحكمة في الأبيات الشعرية

المقدمة

منذ فجر التاريخ، كانت الكلمة وسيلة الإنسان الأولى للتعبير عن مشاعره وأفكاره وتجارب حياته. ومن بين تلك الوسائل، ارتقى الشعر إلى مكانة فريدة جعلته يتجاوز حدود الترف الجمالي إلى رحاب التأمل الفلسفي، والنقد الاجتماعي، والوعظ الأخلاقي، بل وحتى التوجيه السياسي والديني. ولعل الحديث النبوي الشريف: “إن من الشعر لحكمة”، يختصر في ألفاظه القليلة حقيقة عظيمة تشهد بها قرون من التفاعل الإنساني مع الشعر، وتؤكد على أن الشعر لم يكن مجرد وسيلة تسلية أو تزيين للقول، بل كان ولا يزال حاملاً للحكمة، ناقلاً للقيم، ومرآة لعقل وفكر الإنسان العربي وغير العربي.

هذه العبارة النبوية الموجزة تمثل شهادة أصيلة على قيمة الشعر ومكانته في الثقافة الإسلامية والعربية، وتفتح المجال لفهم أعمق لدوره في التأريخ والتحليل والنقد والبناء الفكري. إن إدراك هذا البعد الفلسفي والتربوي للشعر يقودنا إلى دراسة معمّقة لأشكال الحكمة التي احتواها الشعر، ومكانته في المجتمعات، وموقعه ضمن منظومة الفكر والثقافة.

مفهوم الحكمة في الشعر

الحكمة لغةً هي معرفة الحق والعمل به، وهي ثمرة التجربة والتأمل والفكر السديد. أما في الشعر، فهي تتجلى في صورة قول موجز جامع لمعاني سامية، نابع من تجربة عميقة، ومعبّر عنها بأسلوب مؤثر ورفيع. لم تكن الحكمة في الشعر العربي قاصرة على المعاني الأخلاقية، بل شملت كذلك الرؤية الكونية، وفهم طبيعة الحياة، والعلاقات الإنسانية، ومكائد الدنيا، وتناقضات الوجود.

يتميز الشعر الحكمي بأنه لا يكتفي بالوصف أو السرد، بل ينفذ إلى أعماق الذات والواقع ليعيد صياغتهما بلغة رمزية مجازية تجعل المتلقي يعيد التفكير فيما يعرفه، ويستشعر المعاني بشكل جديد. ولذلك ارتبطت الحكمة في الشعر بقيم عقلانية ووجدانية في آن واحد.

أبعاد الحكمة في الشعر العربي

أولًا: الحكمة الأخلاقية

يمثل الشعر أحد أهم الحقول التي تُبثّ من خلالها القيم الأخلاقية، سواء في الجاهلية أو الإسلام. فقد لجأ الشعراء إلى تجسيد مفاهيم مثل الصدق، والشجاعة، والكرم، والوفاء، والزهد، والتسامح، والعدل، وغيرها، في أبياتهم لتكون بمثابة توجيهات غير مباشرة للناس.

عنترة بن شداد، مثلًا، مزج بين الفروسية والحكمة في قوله:

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتبُ

ولا ينال العلى من طبعه الغضبُ

ويعكس هذا البيت قناعة وجودية بأن النفس النبيلة لا تحمل الأحقاد، وأن الطريق إلى المجد محفوف بالتحكم في العواطف والانفعالات.

ثانيًا: الحكمة الفلسفية

برزت في الشعر العربي أبيات تحمل تأملات فلسفية عميقة، تعكس رؤية الشاعر للوجود، والقدر، والموت، والمصير الإنساني. وقد وجدت هذه الأبيات طريقها إلى ذاكرة الأمم وقلوب الأفراد، لما تحمله من صدق شعوري ورقي فكري.

المتنبي، أحد أعظم شعراء العربية، تجلّت في شعره رؤى فلسفية تخطّت زمنه، منها:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهُ

وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

في هذه الأبيات، يختزل المتنبي تجربة طويلة من التأمل في طبائع الناس، ويكشف عن تفاوت النفوس في تعاملها مع المعروف، وهو أمر يجري على كل زمان ومكان.

ثالثًا: الحكمة الاجتماعية والسياسية

في عصور الانحطاط والاضطرابات، ظهر الشعراء كألسنة للشعوب وضمائر حية للمجتمعات، فحملت قصائدهم انتقادات لاذعة للفساد، وانحراف السلطة، وظلم الحكام، وتخاذل النخب. هذه الأبيات لم تكن مجرد ذم أو هجاء، بل كانت أيضًا نقدًا بنّاءً تنطوي على رؤية للإصلاح.

أبو العلاء المعري في قصيدته الشهيرة “غير مجدٍ في ملتي واعتقادي” عَبّر عن أزمة الثقة في المؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية، وكانت كلماته صرخة ضمير تواجه التقاليد الجامدة:

هذا جناه أبي عليّ *** وما جنيتُ على أحدِ

تأملاته الفلسفية الصادمة كانت صورة للحكمة الناقدة التي تتطلب شجاعة فكرية.

رابعًا: الحكمة الوجدانية والروحية

كما عبّر الشعر عن الحكمة في مستويات عقلية وأخلاقية، فقد أجاد أيضًا في التعبير عن الحكمة في التجارب العاطفية والروحية. فالحب، والحنين، والوجدان، والوجد الصوفي، جميعها شكلت حقلًا خصبًا للشعراء للتأمل والبوح بالحكمة العاطفية العميقة.

جلال الدين الرومي مثلًا، عبر عن رحلة الروح، وعشق الحقيقة، في أشعار تمثل ذروة التلاقي بين الشعر والحكمة الروحية:

ما تبحث عنه يبحث عنك

فدع روحك تطفو، ودع العالم يذوب

هذه الحكمة التي تنبثق من المعاناة والعشق الصوفي تمثل أحد أبرز تجليات الحكمة في الشعر الروحي، حيث تصبح الأبيات طريقًا للتنوير.

دور الحكمة الشعرية في تكوين الوعي الجمعي

لقد لعب الشعر الحكمى دورًا محوريًا في بناء الوعي العربي على مدى العصور. فالبيت الشعري الحكيم كان بمثابة قاعدة فكرية يتناقلها الناس، في المجالس والأسواق والمدارس، ويستشهدون بها في أحاديثهم اليومية، مما أضفى عليه وظيفة تعليمية وتربوية مهمة.

والعرب – قبل الإسلام وبعده – كانوا يتعاملون مع الشعر كما لو كان تشريعًا أدبيًا، ومصدرًا للحكمة العملية، ولعل هذا يفسر اهتمام الخلفاء والولاة بتقريب الشعراء إلى مجالسهم، للاستفادة من حكمهم، وتوظيف شعرهم في دعم السلطة أو نقدها.

الشعر والحكمة في الإسلام

رغم أن القرآن الكريم لم يكن شعرًا، بل كتاب هداية وتشريع، إلا أنه لم يرفض الشعر كليًا، بل وضع له ضوابط، وبيّن أن الشعر يكون محمودًا إذا حمل رسالة إيجابية، وكان ملتزمًا بالقيم والحق. والحديث النبوي الشريف: “إن من الشعر لحكمة”، يمثل دليلًا صريحًا على اعتراف الإسلام بقيمة الشعر الحكمى.

لقد وظف كثير من الصحابة والتابعين الشعر لأغراض الدعوة، والوعظ، والدفاع عن الدين. كما نجد في عصور لاحقة شعراء متدينين، مثل حسان بن ثابت، الذي مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ودافع عن الإسلام بشعره، وكذلك الشافعي الذي ألّف أبياتًا تحمل حكمًا أخلاقية وقانونية عظيمة منها:

دع الأيام تفعل ما تشاءُ

وطب نفسًا إذا حكم القضاءُ

مقومات الشعر الحكمي المؤثر

من أجل أن يبلغ الشعر مرتبة الحكمة، لا بد أن يتسم بعدة خصائص، أهمها:

استمرارية الحكمة الشعرية في العصر الحديث

لم تنقطع الحكمة في الشعر بمرور الزمن، بل تطورت وتغيرت لغتها تبعًا لتحولات العصر، دون أن تفقد جوهرها. فشعراء الحداثة، مثل محمود درويش، ونزار قباني، وإيليا أبو ماضي، وأحمد شوقي، حملوا مشاعل الحكمة في أبياتهم، وإن اختلفت موضوعاتهم وصياغاتهم.

يقول إيليا أبو ماضي:

كن جميلا تر الوجود جميلا

ويقول محمود درويش:

على هذه الأرض ما يستحق الحياة

هذه الأبيات، رغم بساطتها، تحمل حكمًا وجودية وفكرية وروحية تمثل امتدادًا لما قاله الشعراء الحكماء عبر التاريخ.

أثر الحكمة الشعرية في الحاضر

في عالم اليوم، لا يزال الناس يتداولون الأبيات الحكيمة، ويستشهدون بها في وسائل الإعلام، والخطب، والمقالات، وحتى في منصات التواصل الاجتماعي. لا تزال الحكمة الشعرية تنير العقول، وتزرع الأمل، وتحذر من الغرور، وتدعو للتأمل، وتشجع على التفكر.

بل أصبح لبعض الأبيات تأثير يفوق تأثير الخطب أو المحاضرات، نظرًا لقوة اختزالها، وسهولة حفظها، وعمق معانيها، كما أن التعليم اليوم يمكنه الاستفادة من الشعر الحكمي في تعزيز القيم، وتحفيز التفكير الناقد، وبناء الذوق الأدبي لدى الناشئة.

الخاتمة

إن الشعر لم يكن في أي مرحلة من تاريخه أداة ترف فقط، بل كان سلاحًا للفكر، ومنبرًا للحق، وصوتًا للحكمة. وقد أصاب الحديث الشريف كبد الحقيقة حين قال: “إن من الشعر لحكمة”، لأنه عبّر عن قيمة خالدة تسكن في أعماق الأبيات الشعرية الصادقة التي تنبع من تجربة، وتُصاغ ببلاغة، وتصب في عقل ووجدان المتلقي.

الشعر هو مرآة الأمة، وفي كل بيت حكيم، تسكن ذاكرة حضارية، وتجربة إنسانية، ورسالة أخلاقية. لذلك فإن حفظ هذا الشعر، وتأمله، ونقله للأجيال، هو في جوهره حفظ لحكمة الإنسان في وجه الزمان.

المراجع

1. الجاحظ، البيان والتبيين. دار الجيل، بيروت.

2. زكي مبارك، الأدب والحياة. مكتبة النهضة المصرية.