من حقوق الأبناء على الآباء: التعليم والإعداد لسن التكليف

إنّ الأسرة هي اللبنة الأولى التي تُبنى عليها المجتمعات، وهي الأساس الذي تُصاغ فيه الشخصية الإنسانية وتتشكل فيه ملامح الفرد الفكرية والسلوكية. ومن هنا، يبرز دور الآباء والأمهات باعتبارهم الركيزة التربوية الأولى في حياة الأبناء، فهم الذين يزرعون فيهم بذور القيم والمعرفة، ويرعونها حتى تثمر رجولة ناضجة ونسوة رشيدة، صالحة لخدمة الدين والمجتمع. ومن أعظم الحقوق التي فرضها الله تعالى على الآباء تجاه أبنائهم: حق التعليم، وحق الإعداد لسن التكليف الشرعي، لما لهذين الجانبين من أثر عميق في بناء الفرد المؤمن الواعي، القادر على تحمل أمانة الحياة وواجبات الدين.

أولاً: التعليم كحق أساسي للأبناء

أ- التعليم في الإسلام: فريضة لا اختيار

لقد رفع الإسلام من شأن العلم والتعليم، وجعلهما من أولى الواجبات الملقاة على عاتق الإنسان. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وفي الحديث الشريف: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”. وهذا الخطاب يشمل الرجال والنساء على السواء، ويُلقي مسؤولية توفير البيئة التعليمية للأبناء على عاتق الوالدين، خاصة في سنوات التكوين الأولى.

ب- التعليم مسؤولية أبوية لا تُفوَّض بالكامل

إنّ من الخطأ الشائع بين بعض الآباء أن يُفهم التعليم على أنه فقط إرسال الطفل إلى المدرسة أو المعهد، وكأنّ هذه المؤسسات وحدها هي المسؤولة عن تعليم الأبناء. في حين أن المسؤولية الحقيقية تبدأ من البيت، فالمعلّم الأول في حياة الطفل هو أبوه وأمه. تعليم النطق، وتعليم المشي، وتعليم النظافة، وآداب الطعام، والتعامل مع الآخرين، جميعها تربية وتأسيس معرفي وسلوكي لا تقل أهمية عن العلوم الأكاديمية.

ج- التعليم القيمي أولاً

لا يقتصر التعليم الواجب على الآباء على المعلومات المدرسية فحسب، بل الأهم من ذلك هو تعليم القيم، والمبادئ، والمفاهيم الإسلامية الصحيحة. فكم من متعلم نال أعلى الدرجات، لكنه كان ضائعًا أخلاقيًا لأنه لم يتلقَّ في بيته تربية قائمة على المروءة والصدق والأمانة. ومن هنا، يجب على الآباء أن يربوا أبناءهم على تقوى الله، وتعظيم أوامره، والحياء من معصيته، قبل أن يحرصوا على الدروس والامتحانات.

ثانياً: الإعداد لسن التكليف

أ- سن التكليف مرحلة فاصلة في حياة الإنسان

سن التكليف في الشريعة الإسلامية هو المرحلة التي يُصبح فيها الإنسان مكلفًا بأداء الواجبات الشرعية، مثل الصلاة، والصيام، والزكاة، وسائر التكاليف التعبدية والاجتماعية. ويبدأ هذا السن غالبًا عند البلوغ، وهو يختلف من شخص لآخر، لكن معدل ظهوره يتراوح بين سن التاسعة إلى الخامسة عشرة تقريبًا. وحين يبلغ الإنسان هذه المرحلة، يُصبح مسؤولاً عن أفعاله، ومحاسبًا عليها شرعًا.

ب- مسؤولية الإعداد النفسي والمعرفي

قبل بلوغ هذا السن، يتحتم على الآباء أن يهيئوا أبناءهم نفسيًا، وعقليًا، وسلوكيًا، لقبول هذه التكاليف وتحملها. فالطفل الذي لا يُربى منذ صغره على حب الصلاة، ولا يُعوَّد على الصيام، ولا يُعلَّم معنى الحلال والحرام، سيفاجأ بهذه الواجبات عندما يبلغ، وقد يرفضها أو يتكاسل عنها لأنه لم يُعدّ لها إعدادًا صحيحًا. فالإعداد للتكليف لا يتم بين عشية وضحاها، بل هو مسار طويل يبدأ منذ نعومة الأظفار.

ج- التعليم التدريجي للأحكام الشرعية

من أبرز صور الإعداد لسن التكليف، التعليم التدريجي للأحكام الدينية. يجب على الآباء أن يشرحوا لأبنائهم – بلغة تناسب أعمارهم – أهمية الصلاة، وحكمة الصيام، ومعنى الزكاة، وفريضة الحج، وأركان الإيمان والإسلام. ولا ينبغي أن ينتظروا حتى يبلغ الابن أو الابنة سن التكليف، بل عليهم أن يبدؤوا من سن السابعة مثلًا، بتعويدهم على الصلاة والعبادات، كما جاء في الحديث الشريف: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر” [رواه أبو داود].

ثالثاً: مراحل التعليم والإعداد حسب الفئة العمرية

يمكن تقسيم مراحل التعليم والإعداد لسن التكليف إلى ثلاث مراحل رئيسية، كما في الجدول التالي:

رابعاً: أثر الإعداد السليم في حياة الأبناء

أ- تعزيز الاستقلالية والوعي الديني

الإعداد الجيد للأبناء قبل سن التكليف يُنتج جيلاً مستقلاً، لا يعتمد فقط على الأوامر، بل يُدرك مسؤولياته الشرعية تلقائيًا. الطفل الذي تربى على حب الصلاة، لن يحتاج إلى تذكير دائم بعد البلوغ، بل سيبادر بنفسه إلى أدائها، لأنه تعلم أنها صلته بربه، وركن دينه الأول.

ب- حماية من الانحراف والانجراف وراء الشهوات

إن الجهل بأحكام الدين يُعد من أكبر أسباب الانحراف الأخلاقي والفكري بين الشباب، لذلك فإن التعليم والتربية الإيمانية منذ الصغر يشكلان حصنًا منيعًا أمام التيارات الفكرية المنحرفة، والضغوط النفسية والمجتمعية. فالشاب الذي يعرف حدود الله، ويُدرك آثار المعصية، لن يستسلم بسهولة لمغريات الدنيا.

ج- بناء شخصية متوازنة

التربية السليمة تعدّ عاملاً حاسمًا في تشكيل شخصية الأبناء. فالأبناء الذين تلقوا تعليمًا أخلاقيًا ودينيًا في سن مبكر، يكونون أكثر انضباطًا، واتزانًا نفسيًا، وقدرة على اتخاذ قرارات مسؤولة، لأنهم تعلموا التفريق بين الصواب والخطأ، والحلال والحرام، ليس فقط من الكتب، بل من سلوكيات من حولهم، خاصة الوالدين.

خامساً: أهمية القدوة الصالحة في عملية الإعداد

لا تكتمل أي عملية تربوية بدون وجود قدوة حسنة أمام الطفل. فالآباء الذين يأمرون أبناءهم بالصلاة وهم لا يصلون، أو ينهونهم عن الكذب وهم يكذبون، لن ينجحوا في تحقيق أي تربية حقيقية. القدوة هي العامل الأكثر تأثيرًا في نفسية الطفل، لأنها تُجسد ما يُقال له في الواقع العملي، وتُثبت له أن القيم التي يسمعها قابلة للتطبيق. لهذا، يجب أن يكون الأبوان أول من يطبق ما يعلمانه لأبنائهم.

سادساً: التوازن بين التعليم الديني والدنيوي

ليس المقصود من الاهتمام بإعداد الأبناء لسن التكليف إغفال الجوانب الدنيوية من التعليم، بل المطلوب هو التوازن. فكما أن الأبناء بحاجة إلى دراسة الرياضيات واللغات والعلوم، فهم بحاجة إلى ما يُنير لهم طريقهم إلى الله. الإنسان المتزن هو الذي يُتقن علم الدنيا، ويُحسن تطبيق شرع الله، ويخدم مجتمعه بما تعلمه من معارف دينية ودنيوية.

سابعاً: العوائق المعاصرة أمام التربية والتكليف

أ- الانشغال الدائم للوالدين

في ظل الحياة المعاصرة المليئة بالمشاغل، أصبح كثير من الآباء يتركون أبناءهم دون متابعة تربوية كافية، وهو ما يؤدي إلى وجود فراغ تربوي يستغله الآخرون، من أصدقاء السوء أو وسائل الإعلام.

ب- التأثير السلبي لوسائل التواصل

أصبحت الأجهزة الذكية والتطبيقات الإلكترونية تشكل خطرًا تربويًا، لأنها تُقدم محتوى قد يُناقض تمامًا ما يُعلّمه الآباء، ما لم تكن هناك رقابة تربوية صارمة وتوجيه دائم.

ج- غياب البرامج التربوية في المناهج الدراسية

تعاني كثير من المناهج التعليمية في العالم العربي من إهمال كبير للجوانب التربوية والدينية، ما يجعل التعليم غير مكتمل، ويدفع الآباء إلى الاعتماد على أنفسهم بشكل أكبر في تربية أبنائهم دينيًا.

خاتمة

حق التعليم والإعداد لسن التكليف من أعظم الحقوق التي أوجبها الشرع الحكيم على الآباء تجاه أبنائهم، وهو حق لا يتحقق بالشعارات، بل يتطلب جهدًا مستمرًا، ومتابعة واعية، وتخطيطًا تربويًا طويل الأمد. الأبوان الناجحان ليسا من يفرحان بنجاح أبنائهما في الامتحانات، بل من يطمئنان إلى أن أبناءهما قد أصبحوا رجالاً ونساءً يحملون همّ دينهم، ويعرفون حدود ربهم، ويؤدون واجباتهم بتقوى ويقين. فحين يُحسن الوالدان التعليم والتربية، فإنهما لا يبنيان فقط أفرادًا صالحين، بل يُسهمان في بناء أمة قوية متجذّرة في إيمانها وأخلاقها.

المراجع:

1. ابن القيم الجوزية، “تحفة المودود بأحكام المولود”.

2. أبو حامد الغزالي، “إحياء علوم الدين”.