جسر الشيطان: أسراره ومواقعه

يُعد “جسر الشيطان” من أكثر المعالم الجغرافية والإنشائية إثارةً للجدل والغموض في العالم، ليس فقط بسبب تسميته التي ترتبط بالأساطير والخرافات، بل أيضًا لتعدد أماكن تواجده في قارات مختلفة، وتنوع تصميماته الهندسية التي تعكس عبقرية الإنسان ومهاراته عبر العصور. على الرغم من أن “جسر الشيطان” قد يبدو تسمية واحدة، إلا أن هناك عدة جسور في العالم تحمل هذا الاسم، ولكل واحد منها قصته الفريدة التي تجمع بين الجمال الطبيعي والإرث الثقافي، وغالبًا ما يرتبط بمعتقدات دينية أو أسطورية تنسب بناءه إلى قوى خارقة أو اتفاقيات بين الإنسان والشيطان نفسه.

يتواجد “جسر الشيطان” في أماكن متعددة حول العالم، حيث لا يوجد جسر واحد فقط يحمل هذا الاسم، بل أكثر من عشرين جسرًا في دول أوروبية وآسيوية وأمريكية، أشهرها في ألمانيا وفرنسا وسويسرا وإسبانيا وبلغاريا. يُعتقد أن سبب شيوع هذا الاسم يعود إلى الاعتقاد القديم بأن بناء بعض هذه الجسور بتقنياتها الدقيقة والمذهلة لا يمكن أن يكون من صنع الإنسان وحده، بل بمساعدة “الشيطان” حسب الميثولوجيات المحلية.

جسر الشيطان في ألمانيا (Rakotzbrücke)

من أشهر جسور الشيطان على الإطلاق، يقع جسر راكوتزبرُوكه (Rakotzbrücke) في حديقة “كْروملاو” في ولاية ساكسونيا شرق ألمانيا. شُيِّد هذا الجسر في القرن التاسع عشر، وتحديدًا عام 1860، ويُعرف بقدرته على تشكيل دائرة شبه مثالية عند انعكاسه على سطح الماء، مما يمنحه منظرًا فنيًا يُحاكي الخيال. بُني الجسر بالكامل من الصخور البازلتية، ويعكس مزيجًا بين الفن القوطي والرؤية الرومانسية للطبيعة.

الهندسة المعمارية للجسر دقيقة للغاية، إلى حد أن السكان المحليين أطلقوا عليه اسم “جسر الشيطان”، لأنهم اعتقدوا أن إنشاء هيكل بهذا التوازن والتماثل يتطلب مساعدة قوى خارقة. اليوم، يُعتبر هذا الجسر معلمًا سياحيًا بارزًا، رغم أنه مغلق أمام عبور المشاة للحفاظ عليه من التآكل.

جسر الشيطان في فرنسا (Pont du Diable)

تقع العديد من جسور الشيطان في فرنسا، لكن أشهرها “بون دو ديابل” في منطقة “أوكسيتاني” جنوب البلاد، ويعود تاريخه إلى أوائل القرن الحادي عشر الميلادي. يرتبط هذا الجسر بأسطورة تقول إن البنائين لم يستطيعوا إنجاز البناء بسبب قوة تيار النهر، فقاموا بعقد اتفاق مع الشيطان الذي وعدهم ببنائه بشرط أن تكون أول روح تعبره ملكًا له. بعد الانتهاء من البناء، خدعوه بجعل حمار يعبر الجسر أولًا، فثار غضبه واختفى إلى الأبد.

الجسر مبني على الطراز الرومانسكي، ويتكوّن من قوس كبير يبلغ ارتفاعه حوالي 18 مترًا، يربط بين ضفتي نهر “إيرو”. رغم بساطته، يعكس الجسر عظمة تقنيات البناء في العصور الوسطى وقدرته على الصمود لعشرات القرون.

جسر الشيطان في بلغاريا (Dyavolski Most)

جسر “ديافولسكي موست” أو “جسر الشيطان” في بلغاريا هو أحد المعالم التاريخية الهامة، ويقع على نهر “أردا” في جبال رودوبي. يعود تاريخه إلى أوائل القرن السادس عشر، حين بُني على يد الحاكم العثماني عبد الله في عهد السلطان سليم الأول. يرتفع الجسر نحو 11.5 مترًا ويبلغ طوله حوالي 56 مترًا.

الأسطورة المحلية تقول إن الجسر يحتوي على بصمة قدم الشيطان محفورة في إحدى الصخور، ولهذا السبب أُطلق عليه هذا الاسم. كما تنتشر روايات تقول إن من يعبر الجسر ليلاً قد يسمع أصواتاً غريبة أو يشعر بوجود قوى غير مرئية.

جسر الشيطان في إيطاليا (Ponte del Diavolo)

“بونتي ديل ديافولو” في إيطاليا هو جسر قديم يقع في مدينة بورغو آ موزانو في إقليم توسكانا، وتم بناؤه في القرن الحادي عشر الميلادي. يُعتبر هذا الجسر تحفة معمارية بسبب قوسه الوسيط المرتفع بشكل غير متماثل، مما يجعله يبدو غير متوازن بصريًا، لكنه مستقر وظيفيًا.

تحكي الأسطورة الإيطالية أن البناء تأخر كثيرًا، فظهر الشيطان وعرض إنهاء العمل في ليلة واحدة مقابل روح أول من يعبر. كغيره من الأساطير، خدع السكان الشيطان بإرسال كلب ليعبر أولًا، ما جعله يشعر بالهزيمة.

جسر الشيطان في سويسرا (Teufelsbrücke)

جسر الشيطان في سويسرا يُعرف باسم “تُويفِلسبروكه”، ويقع في ممر غوتهارد الجبلي، أحد أهم الممرات التاريخية في جبال الألب. تم تشييده في القرن الثاني عشر، وأعيد بناؤه عدة مرات نتيجة فيضانات وانهيارات صخرية. يربط الجسر بين الضفتين الوعرتين لنهر “ريوس”، ويُعد من أقدم جسور سويسرا.

يحمل الجسر نفس الأسطورة المتكررة التي تربط الشيطان ببنائه مقابل الحصول على روح بشرية، ويعد اليوم مزارًا سياحيًا ونقطة التقاء بين الطبيعة القاسية والتاريخ المعماري الغني للبلاد.

جسر الشيطان في إسبانيا (Puente del Diablo)

في مدينة مارتوريل الكتالونية يقع جسر الشيطان الإسباني، وهو جسر قديم ذو طراز قوطي بُني فوق نهر “لوبريغات”. تم ترميمه عدة مرات، وكان يستخدم كمعبر للقوافل التجارية منذ العصور الرومانية. يعود أصل تسميته أيضًا إلى أسطورة مشابهة للقصص التي تم سردها في الدول الأخرى، ما يعكس توارث نفس الميثولوجيات في ثقافات مختلفة.

الجدول التالي يلخص أهم جسور الشيطان حول العالم:

دلالات رمزية وثقافية

يرتبط اسم “جسر الشيطان” في مختلف الثقافات بالخوف، والغموض، والتحدي. كثير من هذه الجسور كانت في الحقيقة معجزة هندسية لعصرها، ومن هنا جاءت الفكرة بأن بناءها يحتاج لقوة غير بشرية. لكن في عمق الأمر، تعكس هذه التسمية احترام الناس للمهندسين والمعماريين القدماء، الذين استطاعوا، بإمكانات بسيطة، بناء منشآت تتحدى الزمن والمكان.

في بعض الحالات، استُخدمت هذه الجسور كمواقع لأداء طقوس دينية أو مراسم رمزية، ما يدل على عمق حضورها في المخيال الشعبي والثقافة الجماعية. كما أصبحت لاحقًا مصدر إلهام للرسامين والمصورين والكتّاب، خاصة في الأدب القوطي والقصص الفانتازية.

جغرافية الاسم وانتشاره

انتشار اسم “جسر الشيطان” في أوروبا الوسطى والجنوبية لا يُعد مصادفة، بل هو انعكاس لمرحلة تاريخية اتسمت بتداخل الدين بالخرافة، حيث كانت الكنيسة تفسّر أي إنجاز غير مفهوم للناس العاديين بأنه من فعل قوى شيطانية. لذا، كل جسر مبني في ظروف صعبة، أو في منطقة وعرة، أو بتقنيات غير مألوفة كان يُنسب للشيطان بطريقة أو بأخرى.

القيمة السياحية والثقافية اليوم

تحولت جسور الشيطان من أماكن محاطة بالرهبة إلى معالم سياحية فريدة تجذب الزوار من مختلف أنحاء العالم. فهي لا تمثل فقط جسورًا مادية بين ضفتين، بل تمثل أيضًا جسرًا بين الماضي والحاضر، بين الأسطورة والحقيقة، بين الفن والتاريخ. إن زيارتها تتيح الفرصة لاكتشاف العمق الثقافي للشعوب التي بنتها، وفهم كيف يمكن للأسطورة أن تُخلّد أثرًا معماريًا وتجعله رمزًا يتجاوز الزمن.

المصادر والمراجع:

• European Bridge Legends and Folklore, J. Smith, 2018

• UNESCO World Heritage Sites – Cultural Monuments of Europe

• ArchDaily Architecture Magazine

• الموقع الرسمي للسياحة في ألمانيا (germany.travel)

• الجمعية التاريخية الفرنسية: Études Médiévales

• Bulgarian Heritage Society

• VisitTuscany.com

• Swiss Alpine Cultural Heritage Archives