جامع القيروان: جوهرة الحضارة الإسلامية في المغرب العربي
يُعدّ جامع القيروان، المعروف أيضاً باسم جامع عقبة بن نافع، من أبرز المعالم الدينية والتاريخية والحضارية في العالم الإسلامي، وأحد أقدم الجوامع في الغرب الإسلامي على الإطلاق. يقع هذا الجامع العريق في مدينة القيروان التونسية، والتي أسسها القائد الإسلامي عقبة بن نافع سنة 50 هـ/670 م خلال الفتح الإسلامي للمغرب. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المدينة مركزاً إشعاعياً للعلم والدين والثقافة، وتحوّل جامعها إلى معلم معماري فريد من نوعه، ومؤسسة دينية وتعليمية شكلت منارة إشعاع ديني وفكري استمر أثرها عبر قرون طويلة.
التأسيس والتاريخ المعماري
أُسس جامع القيروان على يد عقبة بن نافع، وقد خضع عبر العصور لتوسعات وتجديدات متكررة على يد العديد من الحكام الذين تعاقبوا على المنطقة، خاصة خلال العهد الأغلبي (القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي)، وهو العصر الذهبي لتونس الإسلامية. لقد ساهم الأمراء الأغالبة، لا سيما زيادة الله الأول (817–838م)، في توسيع الجامع وتشييد عناصره المعمارية البارزة التي ما تزال قائمة إلى اليوم.
لم يكن بناء الجامع مجرد مكان لأداء الشعائر الدينية، بل كان يُنظر إليه كرمز للقوة الإسلامية في بلاد المغرب، وكمحطة رئيسية في نشر الإسلام والعلم. عُرف الجامع أيضاً بدوره التعليمي، حيث اجتذب العلماء والفقهاء والطلبة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وساهم في ترسيخ المذهب المالكي وتدعيم الفكر الإسلامي المعتدل.
التصميم المعماري: عبقرية إسلامية خالدة
يمتاز جامع القيروان بتصميمه المعماري الفريد، الذي يعكس عبقرية الهندسة الإسلامية وثراء التقاليد المعمارية في المغرب الإسلامي. يقوم الجامع على مساحة شاسعة تبلغ حوالي 9000 متر مربع، مما يجعله من أكبر الجوامع في شمال إفريقيا.
يتكون الجامع من:
1. بيت الصلاة
يُعد بيت الصلاة أهم جزء في الجامع، ويتميز بسقفه المسند إلى أعمدة رخامية ضخمة وأقواس مستديرة تعكس تأثير العمارة الرومانية والبيزنطية المندمجة في الطراز الإسلامي. ويتكون من سبعة عشر رواقاً موازياً لجدار القبلة، وتُعدّ هذه الأعمدة من أهم سماته الجمالية. يحتوي بيت الصلاة على المحراب الشهير الذي يُعد تحفة من الزخرفة الجصية والخشبية والموزاييك.
2. الصحن (الفناء)
صحن الجامع فسيح ومغطى بالحصى، تحيط به أروقة مسقوفة بأقواس نصف دائرية محمولة على أعمدة رخامية. يُستخدم الصحن للوضوء والراحة قبل الدخول إلى بيت الصلاة، وتزينه مئذنة ضخمة تُعد من أقدم المآذن في العالم الإسلامي.
3. المئذنة
ترتفع مئذنة الجامع إلى نحو 31.5 متراً، وتتميز بشكلها المربع الصلد الذي يتألف من ثلاث طبقات متدرجة. صُنعت أساساتها من الحجارة الكلسية وتتميز ببساطتها وجلالها، وهي تُعد النموذج الأولي للمآذن اللاحقة في شمال إفريقيا والأندلس.
4. محراب ومنبر الجامع
يُعتبر المحراب من أهم أجزاء الزخرفة في الجامع، ويجمع بين فنون الخشب والموزاييك والرخام. أما المنبر الخشبي فهو من أقدم المنابر في العالم الإسلامي، ويُعتقد أنه صُنع في القرن الثالث الهجري من خشب الساج المنقوش، ولا يزال محفوظاً في موضعه الأصلي إلى اليوم.
الوظيفة الدينية والعلمية
لم يكن جامع القيروان مجرد مسجد لأداء الصلوات، بل كان جامعة إسلامية متكاملة. فقد احتضن حلقات العلم والتعليم في مختلف فروع المعرفة: الفقه، الحديث، النحو، التفسير، والعلوم العقلية. وكان قبلة للعلماء وطلاب العلم من كل بقاع العالم الإسلامي.
ساهم الجامع في نشر المذهب المالكي في المنطقة، حيث اعتُبر المرجعية الكبرى له، وقد تخرج فيه العديد من العلماء مثل أسد بن الفرات، وسحنون بن سعيد التنوخي، مؤلف “المدونة الكبرى”، أحد أهم كتب الفقه المالكي.
التأثير الحضاري والثقافي
لعب جامع القيروان دوراً محورياً في نقل الثقافة الإسلامية إلى مناطق المغرب العربي، ثم إلى الأندلس. وقد شكّل نموذجاً معمارياً يُحتذى به في بناء الجوامع الكبرى في كل من الجزائر والمغرب وإسبانيا المسلمة، كما في جامع قرطبة الشهير.
وقد أصبح الجامع رمزاً لهوية القيروان وللحضارة الإسلامية في شمال إفريقيا، وهو يُصنّف اليوم ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1988، لما يمثله من قيمة تاريخية وثقافية استثنائية.
الجدول التالي يُلخص أهم المعالم المعمارية والتاريخية لجامع القيروان:
| العنصر | الوصف |
|---|---|
| تاريخ التأسيس | سنة 50 هـ / 670 م على يد عقبة بن نافع |
| المساحة الإجمالية | حوالي 9000 متر مربع |
| النمط المعماري | إسلامي مغاربي مع تأثيرات رومانية وبيزنطية |
| المئذنة | مربعة الشكل، ثلاثية الطوابق، بارتفاع يقارب 31.5 متر |
| عدد الأعمدة | أكثر من 400 عمود رخامي تعود أصول بعضها إلى العهد الروماني |
| وظيفة الجامع | مكان للعبادة والتعليم، مركز فقهي وعلمي ومقر لنشر المذهب المالكي |
| أهم الإضافات | توسيعات الأغالبة (خاصة زيادة الله الأول)، زخارف المحراب والمنبر الخشبي |
التحديات والحفاظ على التراث
رغم ما مر به من تقلبات تاريخية، بما في ذلك الزلازل والتغيرات السياسية، لا يزال جامع القيروان محافظاً على هيبته وهيكله الأصلي إلى حد كبير. وتقوم الدولة التونسية ومؤسسات التراث بإجراء ترميمات دقيقة من حين لآخر لضمان استمرار صموده عبر العصور. كما أن الجامع اليوم لا يزال مستخدماً لأداء الصلوات والجُمع، ما يُبقيه حياً في ذاكرة الأمة وواقعها.
الختام: رمز خالد للحضارة الإسلامية
جامع القيروان ليس مجرد مبنى أثري، بل هو سجل حي يروي قصة الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا، ونموذج للتمازج الحضاري بين الشرق والغرب. وقد احتفظ بمكانته كمرجع ديني وعلمي طوال قرون، ولا يزال يُشكّل علامة بارزة على قدرة الإسلام على بناء حضارات عظيمة قائمة على العلم والفكر والروحانية.
يمثل الجامع شاهداً بصرياً وروحياً على تطور الفن الإسلامي في مراحله الأولى، ودليلاً على العمق الحضاري لمدينة القيروان التي كانت يوماً ما عاصمة للعلم والدين والثقافة، وما زالت إلى اليوم مهوى أفئدة الزائرين والباحثين وعشاق التاريخ الإسلامي.
المراجع:
-
اليونسكو – قائمة التراث العالمي: https://whc.unesco.org
-
حسن حسني عبد الوهاب، “ورقات عن الحضارة العربية الإسلامية في إفريقية”، دار الغرب الإسلامي.
