لماذا يُسمى الاضطراب ثنائي القطب بـ”مرض المبدعين”؟

يُعدّ الاضطراب ثنائي القطب (Bipolar Disorder) أحد أبرز الاضطرابات النفسية التي نالت اهتمامًا واسعًا في الأوساط الطبية والعلمية، لما له من تأثيرات عميقة ومعقدة على المزاج والسلوك والإنتاجية الفكرية للأفراد. لكن ما يثير الانتباه بشكل خاص هو الربط المتكرر بين هذا الاضطراب والإبداع، إذ شاع بين المختصين والعامة على حد سواء تسميته بـ”مرض المبدعين”. هذا الربط لم يأتِ من فراغ، بل ارتكز على ملاحظات سريرية ودراسات علمية وأمثلة تاريخية بارزة لمبدعين عظماء عانوا من هذا الاضطراب وخلّدهم التاريخ بأعمالهم الفذّة.

الاضطراب ثنائي القطب: نظرة طبية

الاضطراب ثنائي القطب هو اضطراب نفسي يتميز بتقلّبات حادة في المزاج، تتراوح بين نوبات من الهوس (Mania أو Hypomania) ونوبات من الاكتئاب الحاد. قد يشعر المصابون بنشاط مفرط، وثقة مفرطة بالنفس، وأفكار سبّاقة خلال فترات الهوس، بينما يعانون من الحزن الشديد، وفقدان الدافع، والتشاؤم خلال فترات الاكتئاب.

ينقسم هذا الاضطراب إلى عدة أنواع رئيسية، أهمها:

• النوع الأول: يتسم بنوبات هوس واضحة قد تتطلب دخول المستشفى، تتبعها نوبات اكتئابية.

• النوع الثاني: يتميز بنوبات اكتئابية كبرى ونوبات هوس خفيفة (Hypomania) لا تصل إلى درجة الهوس الكامل.

• اضطراب المزاج الدوري (Cyclothymia): تقلبات مزاجية أقل حدة، لكنها مزمنة ومستمرة لفترات طويلة.

العلاقة بين الاضطراب ثنائي القطب والإبداع

الخلفية التاريخية

يرتبط مفهوم “المبدعين المجانين” في الثقافة الغربية منذ قرون طويلة، وقد ساهمت سِيَرُ شخصيات مشهورة كفنسنت فان جوخ، وإميلي ديكنسون، وبيتهوفن، في ترسيخ هذه الصورة. لاحقًا، ومع تطور الطب النفسي، بدأ العلماء بتقصي الصلة بين الإبداع والاضطرابات المزاجية، خاصة الاضطراب ثنائي القطب، ووجدوا أن هناك أنماطًا متكررة تشير إلى ارتباط وثيق بين نوبات الهوس أو الهوس الخفيف وبين حالات من الإلهام والابتكار.

الفسيولوجيا العصبية والإبداع

خلال نوبات الهوس أو الهوس الخفيف، يظهر نشاط مرتفع في مناطق الدماغ المرتبطة بالإدراك، واللغة، والانتباه، والربط بين الأفكار. هذا النشاط الزائد قد يؤدي إلى توليد أفكار غير تقليدية وإبداعات فكرية مميزة. حيث تتدفق الأفكار بسرعة، ويكون لدى الشخص دافع قوي للعمل، وطاقة جسدية عالية، وشعور بالنشوة، وكلها عوامل تساهم في تعزيز القدرة على الإنتاج الإبداعي، خصوصًا في المجالات التي تتطلب التجريب والابتكار كالشعر، والموسيقى، والرسم، والكتابة.

الدراسات النفسية والإحصائية

أظهرت دراسات متعددة أن نسبة كبيرة من الأشخاص المبدعين، وخاصة في مجالات الفنون والآداب، تظهر لديهم أعراض متوافقة مع اضطرابات المزاج، خصوصًا النوع الثاني من اضطراب ثنائي القطب. في دراسة أجرتها نانسي أندرياسن على كتّاب وأدباء مشهورين، وُجد أن نسبة عالية منهم يعانون من اضطرابات المزاج، وفي مقدمتها الاضطراب ثنائي القطب.

دراسة أخرى للبروفيسور كاي ردفيلد جيميسون، وهي واحدة من أبرز الباحثين في هذا المجال، أكدت أن هناك علاقة إيجابية قوية بين الهوس الخفيف والإبداع، وأشارت إلى أن الهوس الخفيف يعزز من الطلاقة الفكرية والتفكير غير النمطي.

الهوس الخفيف والإبداع: حالة نفسية محفّزة

الهوس الخفيف (Hypomania) يُعد المرحلة الأكثر ارتباطًا بالإبداع، إذ يوفر حالة عقلية مثالية للابتكار. يتميز المصاب بنشاط مرتفع، وتفكير سريع، وسلوك اجتماعي جريء، وجرأة في خوض التجارب الجديدة، وارتفاع في الثقة بالنفس. هذه المظاهر قد تؤدي إلى إنتاج أدبي أو فني غزير، والتفكير خارج الصندوق، وتطوير أفكار أصيلة.

هذه الحالة غالبًا ما تكون غير مدمّرة على غرار الهوس الكامل، وتسمح للشخص بالاستفادة من فوائده دون أن يدخل في أعراض ذهانية أو انهيارات عصبية، لذلك تُعتبر المحرك الأساسي وراء الربط بين ثنائي القطب والإبداع.

أمثلة على مبدعين مصابين بثنائي القطب

• فنسنت فان جوخ: الرسام الهولندي الشهير، عُرف بتقلباته النفسية، ويُعتقد أنه كان مصابًا بالاضطراب ثنائي القطب، حيث رسم أشهر لوحاته خلال فترات الهوس، بينما عاش اكتئابًا شديدًا انتهى بانتحاره.

• سلفيا بلاث: الشاعرة الأمريكية التي قدمت أعمالًا أدبية خالدة، وعانت طوال حياتها من اضطراب ثنائي القطب، وجسّدت معاناتها النفسية في روايتها “الناقوس الزجاجي”.

• إرنست همنغواي: أحد أبرز كتّاب القرن العشرين، عانى من اضطرابات مزاجية حادة، ويُعتقد أنه كان مصابًا بالاضطراب ثنائي القطب، ما انعكس في أسلوبه الأدبي وتجاربه الحياتية.

• لودفيغ فان بيتهوفن: عبقري الموسيقى الكلاسيكية، يُعتقد أيضًا أنه عانى من تقلبات مزاجية حادة، وأنتج العديد من مقطوعاته العبقرية خلال نوبات الهوس.

الجانب المظلم: عندما يتحول الإبداع إلى ألم

ورغم أن الاضطراب ثنائي القطب قد يسهم في دفع بعض الأشخاص نحو الإبداع، فإن الجانب الآخر منه غالبًا ما يكون مدمّرًا. فالاكتئاب الحاد الذي يتبع نوبات الهوس قد يؤدي إلى العزلة، وفقدان الثقة بالنفس، والعجز عن الإنتاج، والشعور بالذنب العميق، وأحيانًا التفكير بالانتحار.

الإبداع المستند إلى الألم النفسي قد يُنتج أعمالًا خالدة، لكنه غالبًا ما يكون ثمنًا باهظًا يدفعه المبدع من صحته النفسية والجسدية. إذ يتعرض الكثير من الفنانين والكتّاب إلى فترات انقطاع طويلة، أو انهيارات عصبية، أو حتى تعاطٍ للمخدرات أو الكحول في محاولة للتأقلم مع الألم.

دور العلاج في الحفاظ على الإبداع

من أبرز المخاوف التي تواجه المبدعين المصابين بثنائي القطب هي أن العلاج، خاصة بالأدوية المثبطة للمزاج، قد يُطفئ جذوة الإبداع. هذه الفكرة شائعة لكنها مضللة، إذ أن العلاج السليم يمكن أن يساعد على استقرار المزاج دون التأثير السلبي على القدرات الإبداعية.

العديد من الفنانين استطاعوا الحفاظ على توازن نفسي وإنتاج إبداعي من خلال التزامهم بخطط علاجية متوازنة تجمع بين الأدوية والدعم النفسي والتغذية الصحية والتمارين الرياضية والنوم المنتظم.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين سمات الإبداع ونوبات الهوس الخفيف:

الإبداع والمرض النفسي: إعادة نظر في المفهوم

من الضروري التمييز بين الرومانسية المرتبطة بـ”العبقرية المجنونة” والواقع العلمي للاضطرابات النفسية. فليس كل مبدع مصاب بثنائي القطب، وليس كل من يعاني من الاضطراب مبدعًا. ولكن المؤكد أن بعض سمات الاضطراب، خاصة في الهوس الخفيف، قد تتقاطع مع الخصائص المعرفية والسلوكية المرتبطة بالإبداع.

الربط بين ثنائي القطب والإبداع يجب أن يُفهم ضمن إطار علمي لا يُمجد المرض ولا يقلل من مخاطره. بل يجب الاعتراف بأن بعض الأفراد يمتلكون توازنًا هشًا بين العبقرية والاختلال، وأن المجتمع الطبي والفني بحاجة إلى فهم هذه العلاقة بعمق لدعمهم، لا لتمجيد معاناتهم.

الخلاصة العلمية والثقافية

الاضطراب ثنائي القطب يُسمى “مرض المبدعين” نتيجة التقاء مزاياه الهوسية -مثل النشاط المفرط والتفكير الإبداعي والجرأة- مع المتطلبات المعرفية للإبداع. لكنه في الوقت نفسه يحمل جانبًا مظلمًا من الألم والعجز يستدعي التعامل معه برصانة علمية وتعاطف إنساني.

تكمن المفارقة في أن ذات الطاقة النفسية التي تُلهِم المبدع قد تستهلكه أيضًا، ما يجعل من فهم هذا الاضطراب والتعامل معه بعين العلم والرحمة ضرورة لحماية من يحملون شعلة الإبداع ويواجهون تقلبات النفس والوجدان.

المراجع

• Jamison, K. R. (1993). Touched with Fire: Manic-Depressive Illness and the Artistic Temperament.

• Andreasen, N. C. (1987). Creativity and mental illness: Prevalence rates in writers and their first-degree relatives. American Journal of Psychiatry.