هل للطفل التوحدي ثقافة خاصة به؟
يعد اضطراب طيف التوحد من أبرز الاضطرابات العصبية النمائية التي تواجهها المجتمعات المعاصرة، ويشمل مجموعة من الأعراض التي تؤثر على النواحي الاجتماعية، واللغوية، والسلوكية للطفل. وعلى الرغم من اختلاف الأفراد الذين يعانون من التوحد في شدة الأعراض التي تظهر عليهم، إلا أن السؤال الذي يثار بشكل متكرر هو ما إذا كان للطفل التوحدي ثقافة خاصة به، بمعنى آخر، هل يمكن اعتبار أطفال التوحد مجتمعًا متميزًا له خصائصه الثقافية الفريدة؟ في هذا المقال، سنستعرض هذا الموضوع من عدة جوانب علمية، اجتماعية، ونفسية لفهم كيفية تأثير التوحد على الفرد، وهل هذا يؤدي إلى تطوير ثقافة مستقلة أو فرعية.
أولًا: تعريف التوحد والخصائص السلوكية للأطفال التوحديين
قبل الخوض في مسألة ما إذا كان للطفل التوحدي ثقافة خاصة، من الضروري فهم ماهية اضطراب طيف التوحد. التوحد هو اضطراب يعاني منه الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة، ويتمثل في تحديات كبيرة في مجالات التواصل، والتفاعل الاجتماعي، والسلوكيات المتكررة. تختلف شدة الأعراض بشكل واسع بين الأفراد المصابين، ولكن معظم الأطفال التوحديين يواجهون صعوبة في إقامة علاقات اجتماعية وتطوير المهارات اللغوية، كما قد يظهرون سلوكيات متكررة مثل حركات يدوية متكررة، أو تفضيل الأنشطة المألوفة والروتين اليومي.
يشير العلماء إلى أن التوحد ليس مرضًا، بل هو حالة عصبية تؤثر على الطريقة التي يعالج بها الدماغ المعلومات. وبالتالي، يمكن للأطفال التوحديين أن يمتلكوا قدرات معرفية عالية في بعض المجالات مثل الرياضيات، والذاكرة، والقدرة على التركيز على التفاصيل الدقيقة. إلا أن التحديات التي يواجهونها في التواصل والتفاعل الاجتماعي قد تجعلهم يظهرون بشكل غريب أو مختلف عن بقية الأطفال، مما يخلق حاجزًا اجتماعيًا يصعب تجاوزه.
ثانيًا: مفهوم الثقافة وأبعادها
لفهم السؤال المطروح حول وجود ثقافة خاصة للأطفال التوحديين، من الضروري أولًا تعريف “الثقافة”. الثقافة هي مجموعة من القيم، والعادات، والمعتقدات، والتقاليد التي يتبناها أفراد مجتمع معين، وتشمل جميع الأوجه التي تحدد سلوكيات وتفاعلات الأفراد ضمن هذا المجتمع. الثقافة تتسم بأنها مرنة وقابلة للتطور بناءً على التفاعلات الاجتماعية والبيئية. يتم نقل الثقافة من جيل إلى جيل من خلال التعليم والتعلم الاجتماعي.
وبناءً على هذا التعريف، يمكننا التساؤل ما إذا كان الأطفال التوحديون يشكلون مجتمعًا ثقافيًا مستقلًا أو فرعيًا يمكن أن يتطور من خلال تفاعلاتهم مع بعضهم البعض أو مع المحيطين بهم. لا شك أن التوحد له تأثير كبير على القدرة على التواصل والتفاعل الاجتماعي، مما يخلق بيئة قد تكون شديدة التميز.
ثالثًا: هل يمكن للأطفال التوحديين تكوين ثقافة خاصة بهم؟
1. الثقافة الاجتماعية التوحدية
من المهم أن نفهم أن الأطفال التوحديين لا يشكلون بالضرورة ثقافة موحدة أو مستقلة في المعنى التقليدي للكلمة. إذ إن التوحد يؤثر على الأفراد بطرق تختلف حسب شدة الأعراض وتوجهاتهم الشخصية. ومع ذلك، يمكن للطفل التوحدي أن يكون جزءًا من ثقافة اجتماعية خاصة به في سياق تفاعلاته ضمن مجموعة من الأطفال التوحديين.
هذه “الثقافة الاجتماعية التوحدية” قد تتسم ببعض السمات الخاصة التي تجعل الأطفال التوحديين يتفاعلون مع بعضهم البعض بطرق مختلفة عن أقرانهم. على سبيل المثال، قد يتجنب الأطفال التوحديون التفاعل البصري أو التواصل اللفظي التقليدي، وقد يعتمدون بدلاً من ذلك على إشارات غير لفظية أو أدوات تكنولوجية مثل الأجهزة المساعدة على التواصل. يمكن أن تتطور بينهم أساليب مشتركة للتفاعل تختلف عن الأساليب المعتادة في المجتمعات غير التوحدية.
إن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب التوحد قد يخلقون نوعًا من “اللغة الخاصة” أو التفاعل الخاص الذي يتسم بتكرار الأفعال أو العبارات المألوفة لديهم. هذا التفاعل قد يصبح، في بعض الحالات، ثقافة فرعية يمكن فهمها فقط من قبل الأطفال الذين يشتركون في نفس الاضطراب.
2. أثر البيئة المساعدة في تكوين ثقافة خاصة
من العوامل التي تساهم في تكوين ثقافة خاصة للأطفال التوحديين هو البيئة المحيطة بهم، خصوصًا إذا كانت بيئة داعمة مثل المدارس الخاصة التي تهتم بتعليم وتطوير مهارات هؤلاء الأطفال. في مثل هذه البيئة، قد يتبنى الأطفال التوحديون مجموعة من الأساليب المشتركة للتعامل مع العالم من حولهم، مما يؤدي إلى تشكيل ثقافة محلية أو فرعية داخل هذه البيئة. هذه الثقافة قد تشمل كيفية التعامل مع الضغوط الاجتماعية، وكيفية تكييف أنماط التفكير مع التحديات اليومية التي يواجهها الأطفال المصابون بالتوحد.
في المجتمعات التي تحتوي على مجموعات من الأطفال التوحديين، يمكن أن تتبلور عادات خاصة بها، مثل مجموعة من الأنشطة التي تركز على تعزيز التواصل بين الأطفال التوحديين، أو استخدام تقنيات تعليمية مبتكرة تشجع على التفاعل. ومن الجدير بالذكر أن هذه الثقافة ليست ثابتة أو موروثة، بل هي متغيرة حسب التجارب والظروف المحيطة بكل طفل.
3. الدعم المجتمعي وتشكيل الهوية الثقافية
علاوة على ذلك، يمكن أن يكون الدعم المجتمعي أمرًا مهمًا في تشكيل هوية ثقافية للأطفال التوحديين. هذا الدعم لا يقتصر فقط على الدعم الطبي أو العلاجي، بل يشمل أيضًا الفهم والتقبل من قبل المجتمع الأوسع. عندما يتبنى المجتمع طرقًا متقدمة للتعامل مع الأطفال التوحديين، مثل استخدام تقنيات العلاج السلوكي أو تطوير بيئات تعليمية مناسبة، فإن هذا يساهم في بناء هوية جماعية خاصة للأطفال التوحديين، وهذا بدوره يمكن أن يعزز من شعورهم بالانتماء إلى مجموعة ذات خصائص ثقافية مميزة.
4. تأثير وسائل الإعلام والمحتوى الرقمي
في العصر الحديث، يمكن للأطفال التوحديين أن يكون لهم حضور في فضاءات ثقافية أخرى، مثل وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. يمكن للأطفال التوحديين أن يشكلوا مجتمعات على الإنترنت، حيث يتشاركون تجاربهم، ويكتشفون أساليب جديدة للتفاعل مع العالم. في هذه المساحات، قد يتم تبادل أفكار وممارسات ثقافية يمكن أن تكون مميزة لهذا المجتمع التوحدي الرقمي. لذلك، قد يساهم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في توفير مساحة للطفل التوحدي ليتعرف على ثقافة جديدة تعبر عن تحدياته وتجاربه الخاصة.
رابعًا: تحديات وجود ثقافة توحدية مميزة
على الرغم من أن الأطفال التوحديين قد يطورون بعض الأنماط الثقافية الخاصة بهم، إلا أن التحديات التي تواجههم في التواصل مع المجتمع الأوسع تجعل من الصعب تحديد ثقافة مميزة ومتمايزة بشكل واضح. فالتوحد هو اضطراب فردي بامتياز، حيث تختلف التجارب والتفاعلات من طفل لآخر. بالإضافة إلى ذلك، إن المعايير الاجتماعية العامة قد تؤثر بشكل كبير على كيفية تفاعل الأطفال التوحديين مع المجتمع، وقد يؤدي ذلك إلى عزلهم عن المجتمعات الثقافية التقليدية.
تُظهر الدراسات أن الأطفال التوحديين قد يعانون من تأخر في المهارات الاجتماعية واللغوية، مما يصعب عليهم الانخراط في الأنشطة الثقافية التي تتطلب تفاعلات اجتماعية معقدة. وبالتالي، فإن “الثقافة التوحدية” التي قد تتطور في بيئات داعمة قد تظل محصورة في دائرة ضيقة، وغير قادرة على التوسع لتشمل ثقافة أوسع.
خامسًا: الختام
إن فكرة أن يكون للطفل التوحدي ثقافة خاصة به قد تكون صعبة التحديد، ولكن يمكن القول إن الأطفال التوحديين يعيشون تجارب مميزة يمكن أن تساهم في تشكيل نوع من الثقافة الفرعية، سواء داخل بيئات تعليمية داعمة أو في مجتمعاتهم الرقمية. ولكن، يبقى التوحد، في جوهره، اضطرابًا عصبيًا يؤثر على الأفراد بطرق متباينة، مما يجعل من الصعب تحديد حدود ثقافية ثابتة لهذه الفئة. ومع ذلك، يظل دعم المجتمع وخلق بيئات تعليمية واجتماعية تشمل الأطفال التوحديين جزءًا أساسيًا من تكوين ثقافة يمكن أن تشبع احتياجات هؤلاء الأطفال الخاصة.
