توزيع المسؤولية في العمل

مسؤولية من وعلى من العمل؟ لا أحد. أي أحد.

تعتبر المسؤولية من المفاهيم الأساسية التي تشكل العمود الفقري للعلاقات الاجتماعية والعملية على حد سواء. فمنذ أن يبدأ الإنسان في محاكاة حياته اليومية، يجد نفسه أمام نوع من المسؤوليات التي يفرضها عليه محيطه الاجتماعي، سواء كان ذلك في الأسرة أو في العمل أو في المجتمع ككل. ومع تطور هذه المسؤوليات، يبرز سؤال مركزي ومثير للجدل: “من المسؤول؟” هذا السؤال الذي قد يبدو بسيطًا في ظاهره، إلا أنه يحمل في طياته العديد من الأبعاد التي تتداخل فيما بينها في كثير من الأحيان.

مفهوم المسؤولية: تقاطع الأدوار

المسؤولية، في أبسط تعريفاتها، هي الالتزام الذي يقع على عاتق الفرد تجاه شخص أو جهة أو قضية معينة، والتي تتطلب منه اتخاذ قرارات وإجراءات تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على محيطه. إلا أن المسؤولية ليست ثابتة أو جامدة؛ فهي قد تتغير وتتنوع وفقًا للسياق الذي يتم فيه تحديدها.

في السياقات العملية، قد نجد أن المسؤولية غالبًا ما تُنسب إلى جهة معينة، مثل المدير أو الموظف أو المساهم في العمل الجماعي. لكن في العديد من الحالات، تظهر مشكلة غامضة حول من يتحمل المسؤولية الفعلية، خاصة عندما تتداخل الأدوار وتختلف التوقعات.

تبدأ المسألة في التعقيد عندما يتعلق الأمر بمؤسسات أو مواقف جماعية، حيث يختلف الفرد في قدرته على تحمل المسؤولية تبعًا للموقع الذي يشغله داخل تلك المجموعة. وبذلك، قد يظهر السؤال الحتمي: “من المسؤول عن ما حدث؟”

العمل الجماعي والفردي: المسؤولية المشتركة

في إطار العمل الجماعي، يُحتسب نجاح العمل بقدرة الأفراد على التعاون والتنسيق بين بعضهم البعض. ومع ذلك، نجد أن معظم المؤسسات والشركات تتعامل مع المسؤولية بشكل فردي، حيث يُحاسب كل شخص على دوره في إنجاز المهام الموكلة إليه، بينما تتلاشى في كثير من الأحيان الملامة التي يتحملها الجميع في حال حدوث فشل جماعي.

فمثلاً، في بيئة العمل، يتوقع أن يتحمل كل عضو مسؤولياته الخاصة، لكن في حالة حدوث خطأ أو فشل في تنفيذ المشروع، تبدأ التكهنات حول من هو المسؤول عن هذا الفشل. هل هو المدير الذي لم يوفر التوجيه الصحيح؟ أم هو الموظف الذي لم يلتزم بالمهام؟ أم الفريق ككل الذي لم يعمل بتنسيق كافٍ؟

غالبًا ما يكون هناك شعور متبادل باللوم بين الأطراف المعنية، مما يؤدي إلى تداخل الأدوار وضبابية المسؤولية. يصبح كل شخص في هذه الحالة غير مستعد لتحمل المسؤولية بمفرده، فيبدأ الجميع في إلقاء اللوم على الآخر.

الثقافة المؤسسية واللامبالاة

واحدة من أكبر العوائق التي تمنع تحديد المسؤولية بوضوح هي ثقافة المؤسسات نفسها. في الكثير من البيئات، يتعامل الأفراد مع العمل على أنه مجرد أداء مهام آلية دون الالتفات إلى النتائج الحقيقية. كما أن التوجه العام الذي يعزز ثقافة “اللامبالاة” تجاه التفاصيل أو تبرير الأخطاء من خلال فرض مسؤوليات مشتركة يؤدي إلى انتشار غياب المساءلة.

تلك الظاهرة لا تقتصر على بيئات العمل فقط، بل تمتد لتشمل كافة مستويات المؤسسات، بدءًا من الحكومات وصولاً إلى الشركات الخاصة. عندما يُصاب الجميع بشلل تجاه تحديد المسؤوليات، تتراكم المشكلات وتستمر دون حل. كما يصبح الجميع متواطئين في هذا الغموض، وتضيع المصداقية والمحاسبة، مما يؤدي في النهاية إلى حالة من العجز الجماعي الذي يعصف بالنتائج المنتظرة.

تأثير المسؤولية الضبابية على الأداء

تؤدي المسؤولية الضبابية إلى تراجع في مستوى الأداء العام، حيث لا يشعر الأفراد بدافع أو ضغط لتحسين عملهم بشكل مستمر. إذا كانت المسؤولية غير محددة، فلن يشعر الشخص بأهمية إنجاز العمل بشكل أفضل من المعتاد، إذ أنه لن يُحاسب مباشرةً على الإخفاقات. في بيئة كهذه، يصبح من الطبيعي أن يقلل الناس من جهدهم لأنهم يدركون أن النتيجة النهائية لن تُعزى لهم بشكل شخصي.

من ناحية أخرى، عندما تكون المسؤولية واضحة ومعرفة، يتمكن الأفراد من توجيه طاقاتهم بشكل أفضل نحو تحسين الأداء، حيث يعرف كل فرد من هو المسؤول عن ما، وبالتالي يعمل على تحسين النتائج التي يترتب عليها مباشرةً. لذا، فإن تحديد المسؤولية يعد عنصرًا أساسيًا في تحسين الكفاءة في العمل الجماعي، حيث يساعد على تحديد التوقعات ورفع المعايير.

المسؤولية الجماعية: نهج للحلول

لكن، في كثير من الأحيان، قد لا يكون من الممكن تحديد المسؤولية بشكل فردي أو تهيئة بيئة للعمل تسهم في تحقيق ذلك. وبالتالي، لا بد من تبني نهج المسؤولية الجماعية كحل. في هذه الحالات، تتحمل المجموعة ككل مسؤولية الفشل أو النجاح. وبدلاً من اللجوء إلى اللوم الفردي، يتم التركيز على معالجة المشكلات بشكل جماعي والبحث عن حلول مشتركة.

هذه الطريقة تتيح للأفراد فرصة التعاون والعمل بروح الفريق لتحقيق الأهداف المرسومة، وتساهم في تقليل التوترات التي قد تنشأ نتيجة لتوزيع المسؤولية بطريقة غير عادلة. المسؤولية الجماعية تضع العمل الجماعي في قلب المعادلة، مما يسهم في تعزيز التواصل بين الأفراد ويساعد في بناء بيئة أكثر مرونة وفعالية.

في النهاية: الحرية في تحديد المسؤولية

إذا نظرنا إلى العلاقة بين الفرد والمؤسسة أو الفريق، نجد أن مسؤولية العمل لا تقتصر على شخص واحد. قد يبدو أن الجميع غير مسؤول في مواقف معينة، ولكن الحقيقة أن تحديد المسؤولية في هذه الحالات يجب أن يكون نتيجة لتحديد الأدوار بوضوح. وهذا ما يدفعنا إلى النظر في أن العمل ليس فقط عن فرد واحد، بل هو تفاعل مستمر بين أفراد مختلفين، كل منهم يتحمل جزءًا من المسؤولية حسب الدور الذي يضطلع به.

في بيئات العمل التي تتسم بالمرونة والتنظيم الجيد، يمكن أن تكون المسؤولية محط أنظار كل فرد، حيث يشارك الجميع في إيجاد حلول للمشاكل ورفع مستوى الأداء. الأمر الذي يساعد على جعل المسؤولية ليست شيئًا يتهرب منه الجميع، بل عنصرًا محفزًا للمزيد من الإنجازات المشتركة.