ابنك.. كيف يكون جريئًا في الحق

المقدمة

في عالمٍ متغيّر مليء بالتحديات الاجتماعية والنفسية والقيم المتضاربة، تصبح تربية الأبناء على القيم الأصيلة مسؤولية عظيمة تقع على عاتق الأبوين والمجتمع بأسره. ومن بين أبرز هذه القيم تأتي الجرأة في قول الحق والتمسك به، ليس بوصفها صفة عابرة أو خُلقًا فرديًا، بل باعتبارها حجر الزاوية في بناء شخصية قوية، متوازنة، وقادرة على التفاعل مع محيطها بوعي واستقامة. فالطفل الذي ينشأ على قول الحق والتمسك به، حتى في مواجهة الضغوط والمغريات، يتحول إلى إنسان نزيه، واثق، وقادر على إحداث أثر إيجابي في بيئته.

معنى الجرأة في الحق

الجرأة في الحق لا تعني التحدي الجاف أو المواجهة الصاخبة، بل تعني التعبير عن الحقيقة بوعي وشجاعة وأدب. إنها تربية وجدانية وعقلية تقوم على التمييز بين الصواب والخطأ، مع امتلاك الجرأة الأدبية والاتزان النفسي للتعبير عن هذا التمييز دون خوف أو تردد. الجرأة هنا لا تنفصل عن الأخلاق، بل تنسجم معها وتستمد منها قوتها.

الطفل الجريء في الحق هو ذاك الذي يعرف ما يؤمن به من مبادئ، ويتحدث بها دون أن يخشى سخرية الآخرين أو تهديداتهم. إنه الطفل الذي يقول “لا” عندما يجب أن تُقال، والذي يقف مع المظلوم حتى لو كان وحده، والذي لا يجامل على حساب المبدأ، ولا يصمت حين يجب أن يتكلم.

أهمية التربية على الجرأة في الحق

غرس الجرأة في الحق لدى الأبناء ليس أمرًا اختياريًا في ظل ما يشهده العالم من تحولات أخلاقية واجتماعية. فالأطفال اليوم يواجهون ضغوطًا إعلامية وثقافية تروّج أحيانًا لقيم نسبية، وتُربك مفاهيم الخير والشر، مما يجعلهم عرضة للتشويش أو الانسياق خلف التيار العام دون تفكير.

كما أن تنمية هذه القيمة تُعد خط الدفاع الأول ضد التنمّر، وضد الوقوع في دائرة الكذب، أو المواربة، أو التواطؤ مع الخطأ. فمن خلال الجرأة في الحق، يتعلم الطفل كيف يصون نفسه من الانجرار وراء السلوكيات السلبية، وكيف يُعبّر عن ذاته بصدق واحترام.

الأسس النفسية والاجتماعية لتنشئة الطفل على الجرأة في قول الحق

1. الأمان العاطفي في الأسرة

الجرأة لا تنبت في أرض الخوف أو القمع. فلا بد أن يشعر الطفل أن أسرته تحميه وتحترم رأيه وتستمع إليه. في الأسرة التي يُسمح فيها للطفل بالتعبير عن مشاعره وآرائه، يتعلّم الطفل أن صوته مسموع وقيم، مما يعزز ثقته بنفسه ويؤهله ليكون جريئًا في قول الحق خارج المنزل.

2. القدوة الصالحة

القدوة تلعب دورًا حاسمًا في التربية على الجرأة في الحق. فإذا نشأ الطفل في بيئة يرى فيها والده أو والدته يقولون الحقيقة ولو على أنفسهم، ويقفون مع الحق في المواقف اليومية، فإنه سيتشرب هذا السلوك تلقائيًا. الأطفال لا يتعلمون من المواعظ بقدر ما يتعلمون من الأفعال والمواقف الواقعية.

3. تشجيع التفكير النقدي

الطفل الذي يُسمح له بالتساؤل، ومناقشة القضايا بحرية، وتقديم وجهة نظره الخاصة، هو طفل ينمو لديه حس التمييز بين ما هو حق وما هو باطل. تنمية مهارات التفكير النقدي تعني أن يكون الطفل قادرًا على تحليل الأمور وليس مجرد تكرار لما يُملى عليه، وهذا شرط أساسي في الجرأة على قول الحق.

4. تعزيز احترام الذات

الطفل الذي يشعر بقيمته الذاتية، ويثق في رأيه، يكون أكثر استعدادًا للدفاع عن الحق وعدم السكوت عن الخطأ. لذلك من المهم أن يُشعر الأهل أبناءهم بالتقدير، وأن يشيدوا بهم عندما يتصرفون بنزاهة، حتى ولو كانت النتيجة غير مريحة على المدى القصير.

استراتيجيات عملية لتربية ابن جريء في الحق

1. الاحتفاء بمواقف الصدق والشجاعة

حين يعترف الطفل بخطئه أو يدافع عن زميل تعرض للظلم، يجب أن يجد من والديه ومعلميه احتفاءً حقيقيًا بهذا السلوك. الكلمات الإيجابية، والمكافآت الرمزية، والاحتضان النفسي، كلها وسائل تعزز قيمة الحق في وعي الطفل وتربطه بالإشباع العاطفي.

2. التمييز بين الجرأة والوقاحة

من الضروري تعليم الطفل أن الجرأة لا تعني التعدي على الآخرين أو إحراجهم، بل أن يكون تعبيره عن الحقيقة مصحوبًا بالاحترام والأدب. الأسلوب هو ما يُحدد ما إذا كان الطفل جريئًا في الحق أو مجرد متمرد يفتقر للكياسة.

3. فتح حوارات حول المواقف اليومية

المواقف اليومية – سواء في المدرسة أو في الشارع أو في الإعلام – فرصة ذهبية للنقاش مع الطفل حول ما هو صواب وما هو خطأ، وكيف يمكن التعامل معه بشجاعة. هذه الحوارات تساعد في تدريب الطفل على التعامل مع المواقف الواقعية وتعزز قناعاته الداخلية.

4. التدريب على المواجهة البناءة

ينبغي تعليم الطفل كيف يعبر عن رأيه عند التعرض للضغط أو الظلم، مع احترام الطرف الآخر. كأن يُدرّب على استخدام عبارات مثل: “أنا لا أوافق لأن…” أو “أعتقد أن ما حدث ليس عادلاً.” هذه التدريبات اللغوية والسلوكية تمنحه أدوات عملية لاستخدام جرأته بشكل إيجابي.

5. إشراك الطفل في مواقف تطوعية وإنسانية

عندما يشارك الطفل في أنشطة إنسانية أو مجتمعية، يتعلم أن الحق لا يقتصر على المواقف الفردية بل يمتد إلى قضايا أوسع مثل العدالة الاجتماعية، ونصرة الضعفاء، والتطوع لخدمة الآخرين. هذه المشاركات تبني شخصيته وتغذي في داخله حس الانتماء والمسؤولية.

تحديات قد تواجه الأسرة في تربية الطفل على الجرأة في الحق

1. البيئة المدرسية غير المشجعة

إذا نشأ الطفل في مدرسة تُكرّم الطاعة العمياء وتُقصي أصحاب الآراء المختلفة، فإن الجرأة في الحق قد تُفسر كوقاحة أو تمرد. هذا يتطلب تواصلًا دائمًا بين الأهل والإدارة المدرسية لضمان بيئة تعليمية تقدر حرية التعبير.

2. الإعلام والقدوات السلبية

الكثير من الشخصيات الإعلامية تُروّج لسلوكيات سطحية أو ملتوية تُربك مفاهيم الأطفال عن الحقيقة. لذا من المهم ترشيد المحتوى الإعلامي الذي يتعرض له الطفل، ومساعدته على فهم الرسائل الخفية وراء ما يشاهد.

3. الخوف من العقوبة أو الرفض

بعض الأطفال يترددون في قول الحقيقة لأنهم يخافون من العقاب أو فقدان حب الأهل. لذلك يجب أن يثق الطفل أن الصدق والجرأة في قول الحق لا تعني بالضرورة العقوبة، بل يمكن أن تعني الإصلاح، والتسامح، والنمو الشخصي.

أثر الجرأة في الحق على شخصية الطفل في المستقبل

الطفل الذي تربى على الجرأة في الحق يصبح في شبابه قائدًا لا تابعًا، ومبادرًا لا متواطئًا. فهو يمتلك الشجاعة الأخلاقية لرفض الفساد، والنزاهة التي تحصنه من الانحراف، والقدرة على اتخاذ قرارات صائبة حتى في ظل الظروف الصعبة. كما أنه يكون صادقًا في علاقاته، واضحًا في مواقفه، ومستعدًا للتأثير في محيطه بإيجابية.

الجرأة في قول الحق تُنمي روح المواطنة الصالحة، وتُخرج من الطفل إنسانًا نافعًا لمجتمعه، ومخلصًا لقيمه، ومهيأً لتحمّل المسؤوليات في مختلف الميادين، سواء في العمل، أو الأسرة، أو الحياة العامة.

جدول: مقارنة بين صفات الطفل الجريء في الحق والطفل المتردد

الخاتمة

تربية الابن على الجرأة في الحق ليست مهمة عابرة تُنجز في أسابيع أو شهور، بل هي مسيرة مستمرة تتطلب وعيًا عميقًا من الأسرة، وثباتًا في المواقف، وتوفير بيئة حاضنة تُنمي في الطفل حس العدالة والقدرة على التمييز الأخلاقي. إنها استثمار طويل الأمد في بناء إنسان صادق، نزيه، قوي، وفاعل في محيطه، وأحد أهم لبنات المجتمع الصالح.

المصادر:

1. عبد الكريم بكار، تربية الأبناء في الزمن الصعب.

2. دانيال غولمان، الذكاء العاطفي.