تفسير سورة الهمزة

سورة الهمزة من السور المكية التي جاءت لتبيان أمر عظيم من أمر الله تعالى يتعلق بحال بعض الناس الذين يغترون بأنفسهم ويدخلون في غاية الغرور والتكبر، حتى يصبح همّهم الوحيد هو جمع المال والثراء المادي، دون مراعاة لأي ضوابط أخلاقية أو روحية. وقد اشتملت السورة على خطاب شديد اللهجة لهؤلاء الذين يصنفهم القرآن الكريم بأنهم همّازون لمّازون، وهذا الوصف يحمل معانٍ كثيرة تتصل بالسلوك النفسي والأخلاقي لمن يصدر منهم هذا التصرف.

مكانة السورة وموقعها في المصحف

سورة الهمزة من السور القصيرة التي تتألف من تسع آيات فقط، وتقع في الجزء الثلاثين من القرآن الكريم، وهي سورة مكية. هذه السورة تقدم نموذجاً واضحاً للتحذير من الغرور والاهتمام المفرط بجمع المال، وتبين مصير من يتبع هذه النزعات بعيداً عن تعاليم الله تعالى وقيم الإسلام النبيلة.

أسباب نزول السورة

تأتي هذه السورة في سياق مواجهة بعض السلوكيات السلبية التي كانت منتشرة في المجتمع المكي آنذاك، حيث كان كثير من الناس يظنون أن المال والجاه هما مفتاح السعادة والنجاح، متجاهلين الأثر الروحي والأخلاقي لذلك على النفس والمجتمع. لذلك كانت سورة الهمزة إنذاراً مبطناً ومباشراً لهؤلاء الذين يستهينون بالقيم ويتعاملون مع المال كما لو كان غاية وجودهم.

تحليل لفظي وتفسير آيات السورة

الآيات 1-2: “وَيْلٌ لِكُلِّ هَمَزَةٍ لُمَزَةٍ”

افتتح الله تعالى السورة بالويل والوعيد لكل من همز ولمز، والهمز هو من يلمز الناس ويذمهم وراء ظهورهم، واللمز هو من ينم عليهم بما يؤذيهم، وهذان السلوكان يعبران عن نمط من القذف والتشهير والتدمير النفسي للآخرين. وهذا الوصف لا يقتصر فقط على اللفظ، بل يمتد ليشمل السلوكيات التي تنم عن سوء النية والإضرار بالناس بهدف التسلية أو الانتقام أو تحقيق مكاسب شخصية.

الآية 3: “الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ”

الهمزة واللمزة هنا مرتبطان بشخص يجمع المال ويعدده، أي يحصي أمواله ويكبر في جمعها، فيصبح جمع المال هو غايته الوحيدة. وهذا يشير إلى أن السورة لا تقتصر على مدح المال أو ذمه، بل على حذر من أن يتحول جمع المال إلى هوس يفسد الروح ويبعد الإنسان عن القيم الإنسانية والدينية.

الآية 4: “يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ”

المال في هذه الآية يمثل الغرور، حيث يظن الإنسان أنه من خلال المال يستطيع أن يخلد في الدنيا، أي أنه قادر على أن يبقى مادياً وحياته مستمرة بفضل ثروته. هذه نظرة خاطئة تجاه المال، فالمال وسيلة فقط ولا يضمن للإنسان خلوداً أو بقاءً أبديين.

الآيات 5-6: “كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ”

في هذه الآيات، تأتي صورة التهديد بالعذاب الأليم، حيث يُنَبَّذ الإنسان في “الحطمة”، وهي اسم من أسماء جهنم التي تأكل كل شيء وتحطم كل ما هو جميل أو صالح. هذا التصوير شديد القوة في اللغة العربية ويعبر عن مدى شدة العقاب الذي ينتظر من يستمر في هذه السلوكيات المنحرفة.

الآية 7: “وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ”

القرآن يطرح هنا سؤالاً بلاغياً ليبين عظمة هذا العذاب الذي لا يمكن تصوره ولا إدراكه بسهولة، فالإنسان مهما حاول أن يتصور عذاب الله في الآخرة، فإن ذلك يتجاوز قدرته.

الآيات 8-9: “نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ”

تصوير النار بأنها موقدة تشتعل بحرارة شديدة وتصل إلى القلوب، وهذا تعبير عن شدة العذاب الذي يؤثر حتى على أعماق الإنسان، لا يقتصر على الجلد أو الجسد فقط، بل يصل إلى القلب والفؤاد، أي مركز المشاعر والروح.

الدروس والعبر من سورة الهمزة

تقدم السورة مجموعة من الدروس الأخلاقية والروحية التي يجب أن يعيها كل مسلم:

• تحذير صريح من الغرور والاعتداد بالمال والجاه، فهما لا يضمنان للإنسان شيئاً دائماً في الدنيا ولا في الآخرة.

• التأكيد على أن السلوك السيء تجاه الآخرين مثل الهمز واللمز هو سبب في عذاب شديد، وهذا السلوك يحطم العلاقات ويزرع الكراهية والبغضاء.

• تذكير بأن عذاب الله شديد ومفزع، لا يقدر على تحمله إلا الذين أصروا على كفرهم وسوء أفعالهم.

• أن المال يجب أن يكون وسيلة للخير والبر، لا هدفاً بذاته يتحول إلى عبودية للنفس والشهوات.

تأثير سورة الهمزة في الحياة المعاصرة

تظل سورة الهمزة صالحة لكل زمان ومكان، فهي تعالج ظاهرة نفسية واجتماعية شائعة، وهي التعلق المفرط بالمال والتفاخر به، وكذلك التدمير النفسي للآخرين بالهمز واللمز. في زمننا الحالي، تنتشر وسائل التواصل الاجتماعي التي قد تصبح ساحة لممارسة الهمز واللمز بشكل مكثف، لذا تظل السورة بمثابة تذكير متجدد بأهمية حفظ الكرامة والابتعاد عن هذه السلوكيات.

يمكن اعتبار السورة دعوة لإعادة النظر في القيم التي نعيشها، والحرص على تنقية النفس من الغرور وحب الذات المبالغ فيه، والاهتمام ببناء علاقات إنسانية صحية قائمة على المحبة والاحترام.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين صفات الهماز واللماز وتأثيراتهما

المصادر والمراجع

• تفسير ابن كثير

• الجامع لأحكام القرآن للقرطبي

سورة الهمزة تمثل رسالة قوية لكل إنسان ليتفكر في أفعاله ويبتعد عن الغرور وحب المال الفاحش، ويعزز مكانة القيم والأخلاق في حياته، فهي تذكر أن مصير الإنسان مرهون بأخلاقه وسلوكه، وليس بما يملكه من أموال أو جاه.