تفسير سورة النازعات

تُعد سورة النازعات من السور المكية التي نزلت في بداية الدعوة الإسلامية، وتتسم ببلاغتها وقوة أسلوبها، حيث تركز على تصوير مشاهد يوم القيامة وأهواله، كما تسلط الضوء على عظمة الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان والكون، وتجسد موقف الإنسان من الحقّ والباطل، وما ينتظره في الآخرة. وفي هذا المقال سنعرض تفسيرًا مفصلًا لهذه السورة الكريمة، مع تناول معاني آياتها وأبعادها الفكرية والروحية.

سبب التسمية ومكان النزول

سورة النازعات سميت بهذا الاسم نسبة إلى كلمة “النازعات” التي افتتحت بها السورة في الآية الأولى، وهي تعبر عن الملائكة التي تنزع أرواح الكافرين بعنف وشدة يوم القيامة. هذه السورة من السور المكية، ونزلت في مكة المكرمة، قبل الهجرة، في فترة كان فيها القرآن يركز على تقوية الإيمان بمشهد القيامة والبعث، وتحذير الناس من الإنكار.

مضمون السورة وأبرز موضوعاتها

تتناول سورة النازعات عدة موضوعات مركزية ترتبط بيوم القيامة، وأحداث البعث، والجزاء، وعبودية الإنسان لله، والعاقبة التي تنتظر الكافرين والمؤمنين. يمكن تقسيم موضوعات السورة إلى أقسام رئيسية على النحو التالي:

1. وصف مشاهد يوم القيامة (النازعات، الهازعات، والناشطات)

تبدأ السورة بوصف تصويري قوي لعملية انتزاع الأرواح يوم القيامة، حيث تذكر الملائكة النازعات الذين ينزعون أرواح الكافرين بعنف، والملائكة الهازمات الذين يضربون بأجنحتهم بإحكام، والملائكة الناشطات الذين ينفثون الروح في أجساد المؤمنين برفق ورحمة. هذا التصوير يبين التفاوت في المعاملة بين الكافرين والمؤمنين في تلك اللحظات الحرجة، كما يوضح شدة الحدث وعظمته.

2. إثبات حقيقة البعث والجزاء

تتساءل السورة عن قدرة الله على إعادة خلق الإنسان بعد موته، وتؤكد أن الله قادر على ذلك بلا شك. تذكر السورة قصة خلق الإنسان من نطفة، ثم تطوره في رحم أمه، وهو تأكيد على قدرة الله على الخلق من العدم، مما يجعل البعث وإعادة الحياة أمرًا ممكنًا.

3. تحذير من الإنكار والتكذيب بيوم القيامة

تؤكد السورة على عاقبة تكذيب يوم القيامة، وتذكر أن هناك فرقًا كبيرًا بين مصير الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبين الذين جحدوا وآمنوا بالكفر. الكفار يواجهون العذاب الشديد، والمؤمنون ينالون الثواب الجزيل والنعيم الأبدي.

4. التذكير بعظمة الله في خلق السماوات والأرض

تُبرز السورة قدرة الله في خلق السماوات والأرض، وتشير إلى أن الكون ليس إلا بيد الله، وأنه الخالق العظيم الذي لا شريك له، وبهذا يُحطم المفاهيم الباطلة التي تنكر قدرة الله.

تفسير الآيات

الآيات 1-7: تصوير حالة الانفصال بين النفوس يوم القيامة

افتتحت السورة بآيات مهيبة تُجسد مشاهد انتزاع الأرواح بشدة وشدة، حيث يستخدم القرآن ألفاظاً حادة كـ”النازعات”، “الهازمات”، “الناشطات” لتصوير المشهد بقوة. هذه الصور تدل على عملية فصل الإنسان عن جسده في ذلك اليوم العظيم، وتتفاوت بحسب حالة الإنسان، إذ هناك من يُنزع روحه بعنف لأنه كافر، ومن يُنزع روحه بلطف ورحمة لأنه مؤمن.

الآيات 8-14: إثبات قدرة الله على البعث

يأتي بعد ذلك سؤال بلاغي يؤكد قدرة الله على إعادة خلق الإنسان، حيث يقول تعالى: “أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ” (آية 8). ثم يذكر الله تفاصيل خلق الإنسان من نطفة، مرورًا بالنطفة في الرحم حتى يولد، وهذا دليل على قدرة الخالق في إحياء الإنسان بعد موته.

الآيات 15-26: وصف مشاهد يوم القيامة وأهواله

يصف الله في هذه الآيات مشاهد القيامة، مثل حدوث الصدمة الكبرى، وزوال الأرض والجبال، وتفرق الناس يومئذ إلى فرق، كل حسب عمله، كما يبين ما ينتظر الكافرين من عذاب شديد.

الآيات 27-46: قصة موسى وفرعون كمثال على تكذيب الرسل

تأتي هذه الآيات بمثابة تأكيد على عاقبة المكذبين بالرسل والأنبياء، عبر ذكر قصة موسى وفرعون، حيث كان فرعون يكذب موسى ويستنكر دعوته، فكان جزاؤه الهلاك والغرق، وهو مثال واضح على مصير المكذبين.

الآيات 47-50: التذكير بخلق السماوات والأرض كدليل على قدرة الله

تختتم السورة بالتذكير بعظمة الخالق الذي خلق السماوات والأرض، وما بينهما، ويشدد على أن ذلك يدل على القدرة المطلقة لله، وأنه وحده المستحق للعبادة.

المعاني اللغوية والبلاغية في السورة

سورة النازعات تحتوي على العديد من الألفاظ ذات الدلالة العميقة، والتي تُظهر بلاغة القرآن وعظمته. فاللفظ “النازعات” مثلاً، يشير إلى القوة والشدة في انتزاع الروح، بينما “الهازمات” تعبر عن الضرب والفرقعة، و”الناشطات” عن النفخ والاهتزاز. هذه الألفاظ تبرز مراحل مختلفة من الفعل نفسه في يوم القيامة، وتعكس مشاهد متناقضة بين العذاب والرحمة.

كما أن التكرار في الآيات مثل “أَفَلَا تُؤْمِنُونَ” و”أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ” يمثل أسلوباً تحذيرياً وتنبيهاً للإنسان للنظر والتفكر في هذه الحقائق.

الدروس والعبر من سورة النازعات

• تأكيد الإيمان بالبعث والجزاء: السورة تذكر الإنسان بأنه سيُبعث من جديد بعد موته ليحاسب على أعماله، وهو أساس العقيدة الإسلامية التي تفرق بين الحق والباطل.

• التركيز على قدرة الله: كل شيء في الكون يبدأ ويعود لله، فهو الخالق المدبر، وهذه الحقيقة تقوي الإيمان وتجعل الإنسان يخشى الله ويتقيه.

• تحذير من الإنكار: السورة تصف حال المكذبين والجاحدين بعاقبة مروعة في الآخرة، مما يحث الإنسان على تصحيح موقفه.

• التفكر في خلق الإنسان والكون: السورة تدعو الإنسان إلى النظر في خلقه وتاريخه ليعلم عظمة الخالق وحكمته.

مقارنة بين مراحل خلق الإنسان كما وردت في السورة

الأثر الروحي والعملي للسورة

تُحدث سورة النازعات في النفس تأثيراً قوياً يدفع الإنسان إلى التوبة والرجوع إلى الله، لما تحمله من رسائل واضحة عن عظمة يوم القيامة، وضرورة الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح. كما تزيد السورة من يقين المؤمن بقدرة الله المطلقة، وتذكّر بالعواقب الوخيمة لمن يغفل عن هذه الحقائق.

من الناحية العملية، تحث السورة على الالتزام بالقيم الإسلامية وأداء الفرائض، وتحذر من الغفلة والتكذيب، وتؤكد على ضرورة التمسك بالإيمان حتى يكون الإنسان من الناجين يوم الحساب.

خاتمة

سورة النازعات تمثل درسًا بليغًا في التوحيد والبعث والجزاء، وهي تحوي في طياتها معانٍ عميقة تتعلق بوجود الإنسان وحياته وما بعد الموت. من خلال الوصف الحي لأهوال يوم القيامة، والتذكير بعظمة الخالق، تضع السورة الإنسان أمام مسؤوليته تجاه ربه، وتحثه على التفكر في خلقه ومصيره النهائي. وتظل هذه السورة من أهم السور التي تقوي الإيمان وتربط القلب بالله، مما يجعلها ذات أثر روحي وعلمي عظيم في حياة المسلم.

المصادر والمراجع

• تفسير ابن كثير

• تفسير الطبري

هذه المصادر من أبرز التفاسير التي عُرفت بتحليلها العميق للسور القرآنية وشرحها اللغوي والفقهي والتاريخي.