تفسير سورة التكوير لابن كثير

تفسير سورة التكوير لابن كثير

تُعدُّ سورة التكوير من السور المكية التي نزلت قبل الهجرة، وتُصنَّف ضمن السور ذات الطابع التصويري القوي، حيث تستعرض مشاهد مهيبة من أهوال يوم القيامة بأسلوبٍ بلاغيٍّ مؤثرٍ يلامس النفوس، ويرسم صورًا مرعبة من انقلاب نظام الكون. تقع هذه السورة في الجزء الثلاثين من المصحف الشريف، وهي السورة الحادية والثمانون في ترتيب سور القرآن الكريم، وتشتمل على تسعٍ وعشرين آية.

اعتمد الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي في تفسيره لهذه السورة أسلوبًا تحليليًّا دقيقًا، متبعًا منهج أهل السنة والجماعة في التفسير بالمأثور، إذ ينقل الروايات عن النبي ﷺ، وأقوال الصحابة والتابعين، مع تبيين المعاني اللغوية والربط بين الآيات. ويُبرز تفسير ابن كثير المعاني العميقة التي تحملها السورة، ويركز على الجوانب العقائدية المتعلقة باليوم الآخر، وبصدق الرسالة المحمدية.

فيما يلي عرض تفصيلي لمضامين هذه السورة كما تناولها ابن كثير في تفسيره الشهير.

أولًا: المشهد الكوني في بداية السورة

افتتحت سورة التكوير بسلسلة من المشاهد الكونية المتعاقبة، التي تدلّ على تغيّر نظام العالم وانقلابه في يوم القيامة:

﴿إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾

أي: ذهب ضوؤها، كما ذكر ابن كثير، حيث قال: “قال ابن عباس: كُوِّرَتْ أي: أُظلمتْ. وقال مجاهد: كُوِّرَتْ بمعنى رُمي بها، وقال قتادة: ذهب ضوؤها”. وهذا يدل على انتهاء وظيفة الشمس، كأحد أعمدة الحياة في الدنيا، وهو مشهد من مظاهر انتهاء هذا العالم.

﴿وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ﴾

فُسِّرت عند ابن كثير على أنها تساقطت، وانطمست أنوارها. والنكد في اللغة هو السقوط بلا نور، وكأنّها تنزاح من مواقعها التي كانت تحفظ بها نظام الليل.

﴿وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾

أي أُزيلت من أماكنها وثُبّتت في الجو ثم صارت كالعهن، أي الصوف المنفوش، وهذا يدل على زوال كلّ ما هو ثابت في الأرض.

﴿وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾

العِشار هي النوق الحوامل في الشهر العاشر، وهي من أنفس الأموال عند العرب، وتعطيلها يعني تركها وإهمالها رغم أهميتها. وهذا من شدة الهول الذي يجعل الناس لا يهتمون بأعزّ ممتلكاتهم.

﴿وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾

أي جُمعت من أماكنها المختلفة، وأخرجت من أوكارها، وأصبحت جزءًا من مشهد يوم القيامة، وهي دلالة على اضطراب عام في كل الكائنات، لا ينجو منه حتى غير المكلَّفين.

﴿وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾

قال ابن كثير: أي أوقدت حتى صارت نارًا تتأجج، واستدلّ بقول مجاهد وغيره. وهذا التحول من الماء إلى النار يعكس قلبًا تامًّا لموازين الطبيعة، ويدل على عِظم الكارثة الكونية.

﴿وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾

قال ابن كثير: “أي: قُرنت الأرواح بالأجساد، أو قرنت كل نفس بشبيهها من الخير أو الشر، أو بقرينها من الملائكة أو الشياطين”، وهي آية تحتمل دلالات متعددة تُجمع على إثبات البعث.

﴿وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنۢبٍ قُتِلَتْ﴾

ذكر ابن كثير أنها إشارة إلى عظيم جرم الجاهلية بوأد البنات، وأن الله تعالى سينتصف لكل مظلوم يوم القيامة، حتى من طفلة صغيرة دُفنت حية. وهو تحذير صارخ من الظلم.

﴿وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾

أي كُشفت صحف الأعمال، كما أورد ابن كثير عن تفسير مجاهد، وهي لحظة الحساب التي تُعلن أمام الخلائق ما قدّمه الإنسان في حياته.

﴿وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ﴾

أي أُزيلت كما يُكشط الجلد عن الشاة، قال ابن كثير: “أي ذهب غلافها وأزيلت، وانكشفت عن حقيقة ما وراءها من الملائكة وأهوال الآخرة”.

﴿وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾

أي أُوقدت وأُلهبت نارها. قال ابن كثير: “أي اشتد اضطرامها، وغليانها، وهي نُصبَت للأشقياء”.

﴿وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾

أي قُرِّبت للمتقين، كما فُسّرت عند ابن كثير، وهي إشارة إلى قرب النعيم الذي ينتظر من أطاع الله ورسوله.

ثانيًا: مضمون التذكير بالبعث والحساب

بعد عرض تلك المشاهد الكونية المفزعة، يأتي تلخيص للنتيجة:

﴿عَلِمَتْ نَفْسٌۭ مَّآ أَحْضَرَتْ﴾

أي علمت كل نفس ما قدمت في هذه الحياة، خيرًا كان أو شرًّا. وهنا يؤكد ابن كثير على أن يوم القيامة هو يوم الجزاء، حيث تُعرض الأعمال وتظهر الحقيقة كاملة.

ثالثًا: القسم على صدق الرسالة المحمدية

بعد التذكير بالمصير، تأتي الآيات التالية لتأكيد صدق نبوة محمد ﷺ:

﴿فَلَآ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ﴾

الخُنَّس هي النجوم التي تختفي في الأفق ثم تعود لتظهر، والكُنَّس التي تكنس في مغيبها كالغزال. وقد أشار ابن كثير إلى أن الله يقسم بهذه المخلوقات التي تدل على نظام كوني دقيق، يؤكد بدوره عظمة الخالق.

﴿وَٱلَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾

القسم هنا بعلامات الليل والصبح، التي تشكل صورة يومية من التقلب الكوني المنظم، وهو ما يؤكد وحدانية الله تعالى وسيطرته على الكون.

ثم تنتقل الآيات إلى توكيد صدق نزول الوحي:

﴿إِنَّهُۥ لَقَوْلُ رَسُولٍۢ كَرِيمٍ﴾

وهو جبريل عليه السلام، كما وضّح ابن كثير، أي أن القرآن نزل على محمد ﷺ بواسطة رسول كريم من الملائكة.

﴿ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾

وهذه الصفات تؤكد رفعة مكانة جبريل عليه السلام، حيث أنه عند الله عز وجل، وله قوة وطاعة ومكانة، وهو أمين في تبليغ الوحي.

رابعًا: تبرئة النبي ﷺ من الافتراء

﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ﴾

نفى الله عن نبيه ما كان يزعمه المشركون، بأن ادّعوا أنه مجنون. وقد أكد ابن كثير أن القرآن وما فيه من معاني عظيمة تُكذّب هذا الزعم الجائر.

﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ بِٱلْأُفُقِ ٱلْمُبِينِ﴾

أي أن النبي محمد ﷺ رأى جبريل عليه السلام على هيئته الحقيقية بالأفق، كما ذكر ابن كثير في تفسيره استنادًا إلى الأحاديث النبوية.

﴿وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾

أي لا يُتهم بكتمان الغيب أو البخل به، بل بلّغ النبي ﷺ كل ما أُوحي إليه. وفسّر ابن كثير “بضنين” على أنها تعني المتهم أو الكتوم.

﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَٰنٍۢ رَّجِيمٍ﴾

أي أن هذا القرآن ليس من وحي الشياطين، بل هو من عند الله تعالى، وقد بين ابن كثير أن الشياطين لا تستطيع أن تأتي بمثل هذا القول، ولا تجرؤ على ذلك.

خامسًا: الختام الحاسم

﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾

أي إلى أين تفرون من هذا الحق الواضح؟ قال ابن كثير: هذا توبيخ لمن يعرض عن الحق ويتبع الباطل.

﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌۭ لِّلْعَٰلَمِينَ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾

أي أن القرآن موعظة وهداية للناس جميعًا، لمن أراد أن يستقيم على الحق. وقد وضّح ابن كثير أن هذا يدل على أن الهداية مشروطة بإرادة الإنسان واستعداده للقبول.

﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾

ختمت السورة بإثبات أن مشيئة الله هي العليا، وأنه لا يتم أمر إلا بإذنه، وهذا تحقيق لمعتقد أهل السنة في الجمع بين إرادة العبد ومشيئة الله.

جدول يوضح أهوال يوم القيامة في بداية السورة:

المصادر والمراجع:

1. تفسير القرآن العظيم، الإمام ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، تحقيق سامي بن محمد السلامة.

2. الدر المنثور في التفسير بالمأثور، الإمام جلال الدين السيوطي.