هل اختلفت دوافع الزواج الثاني في العصر الحالي؟
يُعد الزواج مؤسسة اجتماعية راسخة في جميع المجتمعات الإنسانية، وهو في جوهره عقد شرعي وقانوني وثقافي يهدف إلى بناء أسرة قائمة على المودة والرحمة والتكافل. وعلى مر العصور، اتخذ الزواج أشكالاً وأنماطاً متعددة بحسب الدين والثقافة والسياق الاقتصادي والاجتماعي السائد. ومن بين الظواهر المرتبطة بالزواج، يبرز موضوع الزواج الثاني بوصفه ممارسة قائمة في المجتمعات الإسلامية وبعض الثقافات الأخرى، لكنه يثير جدلاً متجددًا في العصر الحديث، خاصة في ظل التحولات العميقة التي طالت دور المرأة والأسرة، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية. لقد أصبح من الضروري إعادة النظر في دوافع الزواج الثاني اليوم، ومقارنة هذه الدوافع مع تلك التي كانت سائدة في العصور السابقة.
الخلفية الدينية والتاريخية للزواج الثاني
في الشريعة الإسلامية، أُبيح للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة، بشرط أن لا يتجاوز العدد أربع زوجات، وأن يعدل بينهن. وقد ورد في القرآن الكريم في سورة النساء: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾. من هذا المنطلق، لم يكن الزواج الثاني مجرد خيار شخصي، بل كان يستجيب أحيانًا لضرورات اجتماعية مثل كفالة الأرامل، أو الزيادة السكانية في أعقاب الحروب، أو الرغبة في الإنجاب. في تلك السياقات، غالبًا ما كان الزواج الثاني يُنظر إليه كحل اجتماعي مشروع وضروري.
التحولات في العصر الحديث
شهد العصر الحديث تغيرات جذرية على مستوى بنية الأسرة، ومكانة المرأة، وأنماط الحياة اليومية. فقد خرجت المرأة إلى سوق العمل، وتحصلت على مستويات تعليمية عالية، وصارت شريكًا اقتصاديًا فاعلًا في الأسرة. كما تغيرت مفاهيم الحب والارتباط والعلاقة الزوجية ذاتها، ولم تعد مقتصرة على تلبية الحاجات الجسدية أو البيولوجية، بل أصبحت مبنية على التفاهم العاطفي، والانسجام الفكري، والشراكة في تسيير الحياة اليومية. هذه التحولات غيرت بشكل جذري الأسباب التي قد تدفع الرجل إلى التفكير في الزواج الثاني.
الدوافع التقليدية للزواج الثاني
يمكن تصنيف الدوافع التقليدية للزواج الثاني، كما سادت في العصور السابقة، إلى عدة محاور:
-
الرغبة في الإنجاب: كانت من أقوى الأسباب، خاصة إذا كانت الزوجة الأولى عقيمًا أو لم تنجب الذكور.
-
الضرورات الاجتماعية: مثل كفالة أرملة أو امرأة فقدت معيلها، خاصة في المجتمعات القبلية أو القروية.
-
الدافع الديني: بوصف الزواج الثاني سنة من سنن النكاح المباحة والمشروعة.
-
القوة الاقتصادية: حيث كان بعض الرجال يمتلكون القدرة المالية لتكوين أكثر من أسرة.
-
السلطة الذكورية التقليدية: والتي كانت تتيح للرجل التحكم الكامل في مصير النساء دون اعتراض.
التغيرات المعاصرة في دوافع الزواج الثاني
في العصر الحديث، تغيرت معظم هذه الدوافع، وظهرت أخرى جديدة تعكس طبيعة الحياة الراهنة. يمكن تحديد أبرز دوافع الزواج الثاني حاليًا في النقاط التالية:
1. عدم الرضا العاطفي أو الجنسي
في بعض الحالات، يعاني أحد الزوجين من فتور في العلاقة العاطفية أو الجنسية، وقد يشعر الرجل بأنه لا يحصل على الدعم النفسي أو الإشباع العاطفي الذي ينشده من شريكته الأولى. ومع تزايد الحديث في المجتمعات عن “الزواج العاطفي” و”الاحتياج النفسي”، أصبح هذا النوع من الحرمان سببًا يدفع البعض إلى الزواج من أخرى، ظنًا بأنه سيجد فيها ما يفتقده.
2. النزعة إلى التنوع والتجديد
في ظل العولمة والانفتاح الثقافي والمرئي، تزايدت النزعة الاستهلاكية في كافة مناحي الحياة، بما في ذلك العلاقات الشخصية. بعض الرجال يبررون الزواج الثاني بالرغبة في التنوع والتجديد، معتبرين أن العلاقة الزوجية الواحدة تصيبهم بالملل. وقد يعزز من ذلك خطاب إعلامي أو ثقافي يروّج لفكرة الرجولة المرتبطة بتعدد العلاقات.
3. تحسن الوضع المالي
في بعض الحالات، قد يؤدي تحسن الوضع المالي للرجل إلى تفكيره في الزواج الثاني، خاصة إذا لم يكن هذا الخيار متاحًا له في وقت سابق بسبب ظروفه الاقتصادية. فبعض الرجال ينظرون إلى الزواج الثاني كدليل على النجاح المادي والاجتماعي، أو وسيلة لتوسيع دائرة الأبناء والميراث.
4. الدوافع النفسية والاجتماعية
في مجتمعات لا تزال تُقاس فيها مكانة الرجل بمدى نفوذه الاجتماعي وعدد أفراد أسرته، يمكن أن يُنظر إلى الزواج الثاني كوسيلة لإثبات الذات، أو كتعويض عن مشاعر النقص أو الفشل في علاقة زوجية أولى. كما أن الضغوط الأسرية، خاصة من طرف الأهل أو الأصدقاء، قد تلعب دورًا في توجيه الرجل نحو هذا القرار.
5. الزواج السري أو العرفي
من الظواهر المتزايدة في بعض الدول العربية، انتشار الزواج الثاني بصيغ سرية أو عرفية، خاصة بين طبقات معينة كرجال الأعمال أو من يعملون في مجالات تتطلب السفر المتكرر. هذه الحالات غالبًا ما تكون مدفوعة بالرغبة في إقامة علاقات دون التزام طويل الأمد، أو لتجنب الاصطدام مع الزوجة الأولى.
تداعيات الزواج الثاني على الأسرة
رغم أن الزواج الثاني قد يبدو حلاً فرديًا لبعض الأزمات الشخصية، إلا أن آثاره على بنية الأسرة والمجتمع تكون معقدة ومتعددة الجوانب:
-
اضطراب العلاقة الزوجية الأولى: قد يشعر الطرف الأول بالخيانة أو الإهانة، ما يؤدي إلى تفكك العلاقة أو انعدام الثقة.
-
التأثير على الأبناء: الأطفال غالبًا ما يكونون ضحايا هذا النوع من القرارات، وقد يعانون من اضطرابات نفسية أو ضعف في التحصيل الدراسي نتيجة انقسام الأسرة.
-
الضغوط الاقتصادية: في ظل ارتفاع تكاليف الحياة، قد يؤدي الزواج الثاني إلى إثقال كاهل الرجل ماديًا، مما ينعكس سلبًا على العائلتين.
-
التوتر بين الزوجتين: غالبًا ما تنشأ صراعات بين الزوجتين تؤدي إلى مشاكل اجتماعية وأسرية يصعب حلها، خصوصًا في حال السكن المشترك أو التداخل في المسؤوليات.
موقف المرأة من الزواج الثاني في العصر الحالي
مع ارتفاع مستوى الوعي والتعليم لدى النساء، أصبح تقبلهن للزواج الثاني أقل بكثير مما كان في الماضي. كثير من النساء يضعن شروطًا مسبقة في عقد الزواج بعدم الزواج من أخرى، أو يقررن الانفصال عند حدوث ذلك. كما أن مشاركة المرأة في سوق العمل واستقلالها الاقتصادي يمنحها قوة تفاوضية أعلى، ولا يجعلها مضطرة لقبول وضع لا يرضيها.
الزواج الثاني كحل أم كأزمة؟
في ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن الزواج الثاني في العصر الحديث لم يعد مجرد ممارسة تقليدية ذات أبعاد اجتماعية ودينية، بل تحول في كثير من الأحيان إلى قضية معقدة ذات أبعاد نفسية واقتصادية وأخلاقية. فهو لا يُعد بالضرورة حلاً للمشاكل الزوجية أو الأسرية، بل قد يكون نتيجة لفشل في إدارة العلاقة الأولى، أو ضعف في مهارات التواصل والحوار، أو عدم فهم لطبيعة التغيرات في أدوار الجنسين.
العوامل القانونية والاجتماعية المؤثرة
تختلف القوانين المنظمة للزواج الثاني من بلد إلى آخر في العالم العربي. في بعض الدول مثل تونس، يُمنع التعدد تمامًا، وفي أخرى مثل مصر والمغرب، يُشترط إبلاغ الزوجة الأولى وأخذ موافقتها. وقد تطورت هذه القوانين بتأثير من حركات حقوق المرأة، والاتفاقيات الدولية التي تدعو إلى حماية الأسرة ومنع التمييز ضد المرأة. كما تلعب الجمعيات النسوية والإعلام دورًا في تسليط الضوء على الآثار السلبية للزواج الثاني، والدعوة إلى مراجعته على أسس أخلاقية وإنسانية.
جدول مقارنة بين دوافع الزواج الثاني في الماضي والحاضر:
| المعيار | الدوافع التقليدية (الماضي) | الدوافع المعاصرة (الحاضر) |
|---|---|---|
| الإنجاب | أحد الدوافع الأساسية، خاصة في حالة عقم الزوجة | لا يزال قائمًا لكنه تراجع بسبب تطور الطب والمشورة |
| الأسباب الاجتماعية | كفالة الأرامل والمحتاجات | غير سائدة بنفس القوة، مع تطور مؤسسات الرعاية الاجتماعية |
| الوضع المالي | نادرًا ما يشكل عائقًا للطبقات الغنية | تحسن الوضع المالي يعتبر محفزًا للزواج الثاني |
| المشاعر والانسجام | أقل أهمية، نظراً لغياب ثقافة الحب في الزواج | أولوية كبرى في اتخاذ قرار الزواج أو الانفصال |
| النظرة الدينية | دافع قوي ومشروع بدون اعتراض | ما زالت قائمة ولكنها تواجه نقدًا وسؤالًا عن العدالة |
| النفوذ الاجتماعي | مدفوع بتقاليد القبيلة والمكانة | مدفوع بالتفاخر أو إثبات الذات في بعض الأوساط |
| مشاركة المرأة في القرار | ضعيفة أو منعدمة | قوية، وقد تؤدي إلى الطلاق أو الرفض التام |
الخلاصة
إن دوافع الزواج الثاني لم تعد كما كانت في السابق، إذ تراجعت بعض الأسباب التقليدية وبرزت أخرى تعكس تحولات اجتماعية وثقافية عميقة. ومن هنا، فإن تحليل هذه الظاهرة يتطلب فهمًا شاملاً للسياق المعاصر، ومراعاة التوازن بين الشرع والمصلحة الأسرية والاجتماعية. إن الحفاظ على كيان الأسرة واستقرارها يجب أن يكون الهدف الأسمى في أي علاقة زوجية، سواء كانت أولى أو ثانية، وهذا لا يتحقق إلا بالحوار، والعدالة، والنضج العاطفي.
المراجع:
-
الطاهر، عبد العزيز. الأسرة المسلمة بين الفقه والواقع المعاصر. دار الفكر، بيروت، 2018.
-
تقرير الأمم المتحدة حول أوضاع المرأة العربية، 2022.
