الإجابة على الحديث الوارد في “رضاع الكبير”
مقدمة
لقد جاء الإسلام بنظام محكم لتنظيم العلاقات الإنسانية في مختلف المجالات الحياتية، من بينها علاقة الرجل بالمرأة، وتنظيم الأسرة والعلاقات الاجتماعية، وهو ما يظهر في العديد من الأحكام الشرعية التي وردت في النصوص الشرعية، ومنها قضية “رضاع الكبير”. قضية هذا الحديث من الموضوعات الشائكة التي أثارت الكثير من الجدل بين العلماء، وقد تعددت الاجتهادات والتفسيرات بشأنه، مما يجعل من الضروري الإحاطة به من جميع جوانبه لفهم ما جاء فيه ومدى تطبيقه في العصر الحاضر.
في هذا المقال، سنتناول الحديث الوارد في “رضاع الكبير” وشرح معناه، ودراسة الظروف التي جاء فيها، كما سنعرض تفسيراته المختلفة بين العلماء، والإجابة على الاستفسارات التي تدور حول كيفية تطبيقه، أو الرد عليه في حال كان هناك إشكال أو اعتراض.
نص الحديث وتفسيره
أولاً، يجب أن نعرض النص الوارد في الحديث حول “رضاع الكبير” من أجل أن نوضح ما تم نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم. ففي الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود وغيرهما من الأئمة، جاء عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كان في ما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ما هو عليه”.
هذا الحديث هو الحديث الأساسي الذي استند إليه الفقهاء في الحديث عن “رضاع الكبير”. الفكرة التي يحملها هذا الحديث هي أن الرضاعة، التي تأتي ضمن الأحكام الشرعية المتعلقة بالتحريم، يمكن أن تؤثر في العلاقات الأسرية. وبالتالي، كان الجدل حول تحديد ما إذا كان “الرضاع” في مرحلة متقدمة من العمر (أو “الكبير”) يمكن أن يكون له نفس أثر الرضاعة في سن الطفولة.
أصل التشريع وأسباب النزول
قصة “رضاع الكبير” تشير إلى فترة من الزمان عندما كان التوسع في الشريعة الإسلامية يتطلب إعادة النظر في مسائل اجتماعية جديدة لم تكن موجودة من قبل. يتضح من حديث عائشة رضي الله عنها أن بعض النساء في فترة ما بعد الهجرة كن يتعاملن مع قضية الرضاعة الكبرى في سياق اجتماعي مختلف تمامًا، حيث كانت بعض النساء يرضعن رجالًا كبارًا كي يحللن لهم الدخول في بيتها دون وجود عائق شرعي يمنع ذلك، خاصة في الحالات التي كان فيها الرجل كبيرًا في السن أو غير قادر على إتمام ما كان يفرضه الشرع في ذلك الوقت.
التفسير المشترك بين العلماء من هذه الحادثة هو أن بعض النساء في بداية الإسلام كان يرضعن الرجال الكبار، ليصبح هؤلاء الرجال محارمًا للنساء في الحالات التي قد تكون صعبة، مثل زيارة أو دخول بيت امرأة في ظروف اجتماعية محددة.
تفسير علماء الحديث والفقهاء
لا شك أن هناك عدة آراء وتفسيرات مختلفة بشأن صحة العمل بهذا الحديث. البعض يرى أن هذه الرخصة كانت خاصة للمرأة التي رضعت الرجال الكبيرين في بداية الإسلام في فترة لم يكن فيها فقهاء قد أسسوا فهمًا محكمًا حول العلاقات الخاصة بالرضاعة. بهذا المعنى، يعتبر بعض العلماء أن الحديث يشير إلى استثناء في وقت معين، ولذلك فإن تطبيق هذا الحكم في العصر الحديث ليس ملائمًا.
من بين العلماء الذين قدموا تفسيرات مميزة للحديث، نجد أن الإمام الشافعي يرى أن الرضاعة الخاصة بالكبار لا يمكن أن تؤثر في العلاقات، كما هي الحال مع الرضاعة في سن الطفولة. بمعنى آخر، إذا كان الرجل قد نشأ في سن معينة، فلا يمكن أن يؤثر رضاعه في علاقاته الخاصة بالنساء.
أما الإمام أحمد بن حنبل فقد أشار إلى أنه لا يمكن تطبيق هذا الحديث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مسألة “رضاع الكبير” كانت تشريعًا خاصًا لظروف محددة ولم يعد لها محل بعد ذلك.
الرد على الاعتراضات
من أبرز الاعتراضات التي أثيرت على هذا الحديث هي أن بعض الناس يعتبرون أن “رضاع الكبير” يتنافى مع قواعد الشريعة الإسلامية في هذا العصر. يعتبر هؤلاء المعترضون أن هذه الرخصة كانت خاصة للظروف التاريخية التي نشأت فيها الشريعة، وأنها لم تكن تهدف إلى تغيير الأصل الذي هو تحريم العلاقة بين الرجل والمرأة حتى بعد الرضاعة.
في هذا السياق، كان الرد الأكثر شيوعًا بين العلماء الذين يرفضون تفسيرًا حرفيًا للحديث هو أن هذا الحكم يختص بحالة استثنائية في فترات معينة من التاريخ الإسلامي ولم يكن يُقصد به فرض حكم عام على جميع الحالات. كما أن بعضهم يرى أن “رضاع الكبير” كان ابتكارًا اجتماعيًا من قِبل الصحابيات على ضوء الظروف الاجتماعية المحددة في ذلك الوقت.
آراء معاصرة في “رضاع الكبير”
بالنسبة لآراء الفقهاء المعاصرين، فقد تم تبني رأي غالبية العلماء بضرورة تفسير الحديث في سياق عصري وفهم تطور الفقه الشرعي مع التغيرات الاجتماعية والثقافية. لا يمكن للفقهاء المعاصرين تطبيق هذا الحكم في السياق الراهن لأنه سيكون مخالفًا للأعراف الاجتماعية الحديثة، والتي تنظر إلى قضية الرضاعة كمسألة تتعلق بالأطفال فقط.
أحد الآراء البارزة التي تم تداولها حديثًا تشير إلى أن “رضاع الكبير” لا يمكن أن يُعتمد عليه في حل العلاقات الشرعية بين البالغين في المجتمعات الحديثة، حيث إن التقاليد الاجتماعية تغيرت وأصبحت الرضاعة في سن الطفولة فقط هي التي تؤدي إلى تحريم العلاقة بين الرجل والمرأة. ووفقًا لهذه الآراء، فإن التشريع الذي ورد في الحديث يعد من الأحكام التي كانت تُطبَّق في ظروف معينة في بداية الإسلام ويجب ألا يؤخذ كقاعدة عامة.
العوامل الاجتماعية والثقافية المؤثرة
من الجدير بالذكر أن من أهم العوامل التي جعلت من حديث “رضاع الكبير” موضوعًا مثيرًا للجدل في العصر الحديث هي التغيرات الاجتماعية والثقافية التي مر بها المجتمع الإسلامي. ففي الوقت الذي كان فيه الرضاعة حلًّا اجتماعيًا لبعض المشكلات الخاصة بالعلاقات الأسرية في المدينة المنورة، فإن تطور الحياة الاجتماعية في العصر الحديث فرض مبدأ تكوين العلاقات بناءً على مبدأ من القيم الاجتماعية المتغيرة التي لا تسمح بتطبيق نفس الحكم في عصرنا.
يضاف إلى ذلك أن المجتمعات الحديثة قد أضحت أكثر وعيًا بحقوق الإنسان في العلاقات، وهذا يشمل القوانين المتعلقة بالعلاقات الزوجية، الميراث، وغيرها من المواضيع التي كان لها دور في إعادة النظر في تطبيق الكثير من الأحكام الفقهية التي كانت سائدة في السابق.
الخاتمة
إن الحديث الوارد في “رضاع الكبير” هو من الموضوعات التي تثير الجدل ويجب التعامل معها بعناية في ضوء السياقات التاريخية والاجتماعية التي أُشير إليها. على الرغم من أن بعض العلماء قد اجتهدوا في تفسير الحديث، إلا أن آراء معاصرة ترى ضرورة تقييد تطبيق هذا الحكم في إطار الزمان والمكان المناسبين. ما يُستخلص من هذه القضية هو أن فهم الشريعة الإسلامية يجب أن يكون مرنًا ويأخذ في الحسبان التغيرات المجتمعية والثقافية، وبذلك يكون الاجتهاد في تفسير النصوص الشرعية مهمًا لتحقيق التوازن بين الحفاظ على جوهر الشريعة وملاءمة الأحكام مع الواقع المعاصر.
