تفسير الزمخشري: بلاغة وعقيدة

تفسير الزمخشري: الكشاف وأبعاده البلاغية واللغوية في علوم التفسير

يُعدّ تفسير “الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل” من أعظم ما ألّفه الإمام أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (467هـ – 538هـ)، وهو أحد التفاسير التي تركت أثرًا بالغًا في الفكر الإسلامي، خصوصًا من الناحية البلاغية واللغوية. لم يكن تفسير الزمخشري مجرد تفسير تقليدي يُعنى ببيان المعاني الظاهرة للآيات، بل جاء متفردًا بمنهجيته العقلية اللغوية المعمّقة التي زاوجت بين علوم اللغة، والبلاغة، وأصول الاعتزال.

هذا المقال الموسع يتناول بالتفصيل خصائص تفسير الزمخشري، وأهم ملامحه المنهجية، وأثره في مدارس التفسير، بالإضافة إلى الانتقادات والملاحظات التي وُجّهت إليه، وتأثيره العابر للعصور في الفكر الإسلامي.

أولًا: التعريف بصاحب التفسير

الزمخشري هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري، وُلد سنة 467هـ في زمخشر إحدى قرى خوارزم، وتوفي سنة 538هـ. اشتهر في ميادين عدّة، منها اللغة والنحو والبلاغة والحديث والتفسير، واشتهر بلقب “جار الله” لأنه جاور الكعبة مدّة طويلة. كان عالمًا معتزليًا، متبحّرًا في علوم اللغة، حتى قيل إن تفسيره الكشاف لم يُرَ مثله في ضبط اللغة وفهم البلاغة.

ثانيًا: نظرة عامة على تفسير الكشاف

جاء تفسير الكشاف في أربعة مجلدات، وهو تفسير لغوي بلاغي عقلاني بالدرجة الأولى، هدف إلى إبراز الجوانب الإعجازية للقرآن الكريم، وخصوصًا من جهة الفصاحة والبيان. ولذلك تميّز التفسير بكونه موسوعة لغوية أدبية في آن واحد، فجمع بين بيان معاني الألفاظ، واستعراض وجوه البلاغة في التعبير القرآني، وتحقيق دلالات الأساليب البلاغية، مع إيراد النكت واللطائف.

كما اهتم الزمخشري في تفسيره بالقضايا العقدية، مُعبّرًا عن منهجه الاعتزالي، مما جعل كتابه مثار جدل كبير بين علماء أهل السنّة، رغم اعترافهم بجودة محتواه اللغوي وبلاغته الفائقة.

ثالثًا: أبرز خصائص منهج الزمخشري في التفسير

1. التركيز على البلاغة والإعجاز البياني

أبرز ما يميّز تفسير الزمخشري هو اهتمامه الكبير ببيان وجوه البلاغة والإعجاز البياني في القرآن الكريم. فقد فصّل في شرح الصور البلاغية، كالتشبيه، والاستعارة، والكناية، والتقديم والتأخير، والحذف والإضمار، والإيجاز والإطناب، مما جعله مرجعًا لغويًا بلاغيًا لا يُستغنى عنه في هذا الباب.

2. النزعة العقلية والجدلية

كغيره من أعلام المعتزلة، لم يتخلّ الزمخشري عن النزعة العقلية في تفسير النصوص، فكان يُميل إلى التأويل العقلي في المواضع التي رأى فيها تعارضًا ظاهريًا مع أصول الاعتزال، مثل الصفات الإلهية، والقدر، والجنة والنار.

3. الاحتكام إلى اللغة والنحو

اعتمد الزمخشري بشكل كبير على قواعد النحو والصرف في بيان معاني الآيات، وربط المعنى بالسياق النحوي واللغوي. كما كان يرجع إلى الشواهد الشعرية الجاهلية للاستدلال على فصاحة التراكيب القرآنية.

4. الرد على المخالفين وتثبيت المذهب

لم يكن التفسير محايدًا في كل مواضعه، بل نجد الزمخشري يُقدّم في بعض المواضع عقائد المعتزلة على أنها الحق المطلق، ويرد على مخالفين من أهل الحديث أو أهل السنّة بأسلوب جدلي أحيانًا، مما جعل بعض العلماء يحذّرون من تأثيره العقائدي رغم فائدته العلمية.

رابعًا: محتويات تفسير الكشاف

يتضمن تفسير الكشاف الجوانب التالية:

خامسًا: أهمية تفسير الكشاف في التراث الإسلامي

رغم التوجّس الذي أبداه بعض العلماء من محتوى الزمخشري الاعتزالي، إلا أن الكشاف لاقى تقديرًا واسعًا في الأوساط العلمية، واعتمد عليه عدد من المفسرين الذين جاءوا بعده، حتى من أهل السنة، وذلك بسبب فرادة معالجته البلاغية، ودقة عرضه اللغوي، وعمق تحليله النصي.

من أبرز العلماء الذين تأثروا بالكشاف:

• الرازي في تفسيره “مفاتيح الغيب”، حيث استلهم منه الجانب البلاغي دون أن يوافقه في العقائد.

• البيضاوي في “أنوار التنزيل”، حيث اعتمد على الكشاف بشكل واضح، لكنه خفّف من حدة الطرح الاعتزالي.

• ابن المنير المالكي في “الانتصاف” الذي خصصه للرد على ما في الكشاف من اعتزال.

سادسًا: موقف العلماء من الكشاف

رأى العلماء في الكشاف علمًا غزيرًا ممزوجًا باعتزال، ولذلك تراوحت المواقف بين التحذير منه والانبهار به.

• ابن تيمية أشار إلى أن فيه من “البدع ما يجب التحذير منه”، لكنه اعترف بأنه يحوي “علماً جماً من اللغة والمعاني”.

• الذهبي في “سير أعلام النبلاء” أثنى على بلاغة الزمخشري لكنه نبّه إلى أخطائه العقائدية.

• الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قال في أضواء البيان: “الكشاف مليء بالكنوز البلاغية، ولا يخلو من شوائب الاعتزال”.

سابعًا: مآخذ على تفسير الكشاف

رغم مكانته العلمية، فقد وُجّهت إلى تفسير الزمخشري عدة مآخذ، أبرزها:

1. الميل إلى الاعتزال في التفسير العقدي.

2. تحامل على بعض الفرق مثل أهل الحديث أو السلفيين.

3. إهمال النسق الفقهي حيث قلّ أن تناول الفقه المقارن.

4. الإفراط في البلاغة مما قد يُغيب المعاني الإيمانية أحيانًا لصالح الجمال البياني.

5. قلة الاستشهاد بالسنة النبوية إلا في مواضع محدودة، مما أضعف جانب التفسير النبوي في محتواه.

ثامنًا: مكانة الكشاف في الدراسات الحديثة

ما يزال الكشاف إلى اليوم أحد أهم المراجع في الدراسات القرآنية، خصوصًا في مجالات الإعجاز البلاغي والدلالات الأسلوبية. وقد كُتبت حوله عشرات الرسائل الجامعية، سواء في نقد منهجه، أو في تحليل مقارباته البلاغية، أو حتى في دراسات المقارنة بينه وبين تفاسير أخرى.

وتعد طبعة الكشاف المحققة من قبل لجنة الأزهر الشريف مع الحواشي والتعليقات أبرز الطبعات التي تحاول توضيح ما غمض فيه.

تاسعًا: استنتاجات حول تفسير الكشاف

• تفسير الكشاف مدرسة متفردة في مجال التفسير البلاغي، ويُعدّ أداة لا غنى عنها لفهم دقائق التعبير القرآني.

• الاحتراز العقائدي ضروري عند قراءة الكشاف، خاصة في مواضع الصفات الإلهية والقدر.

• الاستفادة من أسلوب الزمخشري في تحليل النصوص يجب أن تُوظف في الدراسات اللغوية والأدبية.

• الدمج بين البلاغة والعقيدة في تفسيره دليل على العمق الفلسفي لمشاريع التفسير المعتزلية، والتي حاولت أن تقيم النص على العقل والمنطق مع الاحتفاظ بجمال التعبير.

المراجع:

• الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، تحقيق لجنة من علماء الأزهر.

• الذهبي، التفسير والمفسرون، الجزء الثاني.