المقصود بقوله تعالى “سَنَسْمُهُ عَلَى الْخَرْطُومِ”
يعتبر القرآن الكريم مصدرًا هاديًا للبشرية جمعاء، وأحد أسمى مصادر الهداية والتوجيه في حياتنا. يحتوي القرآن الكريم على العديد من الآيات التي تتناول مختلف جوانب الحياة، بعضها يتعلق بالعبادات، وبعضها يتعلق بالعقائد، وغيرها من الآيات التي تحمل معانٍ عميقة تساهم في توجيه المسلم نحو الصراط المستقيم. ومن بين تلك الآيات التي تحمل معانٍ هامة آية “سَنَسْمُهُ عَلَى الْخَرْطُومِ”، التي وردت في سورة القلم، وهي إحدى السور المكية التي تناولت العديد من الموضوعات المتعلقة بالعقيدة والأخلاق.
هذه الآية بالذات، أثيرت حولها الكثير من الأسئلة والتأويلات، وقد اجتهد المفسرون في تفسيرها ومعرفة المراد منها. لفهم المعنى الصحيح لهذه الآية، يجب أولًا النظر في سياق الآية، ثم توضيح ما تعنيه كلمة “الخرطوم”، وشرح المراحل التي مرَّ بها تفسير هذه الآية عبر العصور المختلفة.
سياق الآية وسبب نزولها
وردت هذه الآية الكريمة في سورة القلم، وهي من السور التي تتحدث عن الابتلاءات التي تعرض لها النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قبل قريش. في هذه السورة، كانت قريش تُؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض دعوته بشكل عنيف، وكان هذا جزءًا من التحديات التي كان يواجهها النبي في بداية الدعوة. وقد سبق هذه الآية في السورة وصفٌ دقيق لتلك الحملة الإعلامية الشرسة التي قادها كفار قريش ضد النبي، والتي شملت السخرية والاستهزاء.
الآية الكريمة التي نبحث في تفسيرها هي قوله تعالى:
“سَنَسْمُهُ عَلَى الْخَرْطُومِ”. هذه الآية تتحدث عن عقوبةٍ معينة ستكون من نصيب أحد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو “أمية بن خلف” الذي كان من أكبر أعداء النبي. وكان أمية بن خلف، إلى جانب تعذيبه للمسلمين في مكة، من أكبر الذين عارضوا الدعوة الإسلامية بكل ما أوتي من قوة. وبالتالي، جاء هذا الوعيد الشديد في الآية ليكشف عن مصير هذا الشخص.
معنى “سَنَسْمُهُ”
كلمة “سَنَسْمُهُ” في اللغة العربية تعني “سنضع له سمًا” أو “سنعلمه بعلامة”. ويقصد بذلك وضع علامة مميزة تميزه عن غيره، لتكون رمزًا على العذاب الذي يستحقه. لكن هذه العلامة ليست مجرد علامة عابرة، بل هي بمثابة عقوبة تخلد في ذاكرة المجتمع، وتكون بمثابة شاهدة على فساده وأفعاله السيئة.
معنى “الخرطوم”
أما كلمة “الخرطوم” فهي تشير إلى أن هذه العلامة ستكون على أنفه، وبالتحديد على جزء من الأنف يعرف في اللغة العربية بالخرطوم، وهو الجزء البارز من الأنف. قد يتصور البعض أن المقصود بهذه الكلمة هو “الأنف” بشكل عام، ولكن بعض المفسرين يرون أن الخرطوم قد يكون إشارة إلى علامة أو تشويه، تكون هذه العقوبة دائمة، بحيث تكون مرئية للجميع.
دلالات الآية
يمكننا أن نستنتج من هذه الآية عدة معانٍ ودلالات مهمة تتعلق بالظالمين، والجزاء الذي سيحصلون عليه في الدنيا والآخرة:
-
الجزاء العادل للظالمين: في الآية الكريمة، يبدو أن الله سبحانه وتعالى يعد أمية بن خلف بعقوبة شديدة تكون عبرة له ولغيره من الظالمين. هذه العقوبة لن تكون مجرد عقوبة عابرة أو مؤقتة، بل ستبقى أثرًا دائمًا شاهِدًا على أفعاله. وهذا يشير إلى أن الله تعالى لا يظلم أحدًا، بل يعامل كل شخص حسب عمله.
-
العقوبة الدنيوية والآخروية: في بعض التفاسير، فُسرت هذه الآية على أنها توضح نوعًا من العذاب الذي قد يُنزل في الدنيا. هذا النوع من العقاب قد يكون جسديًا، مثل العلامة التي ستحملها “الخرطوم” في وجه أمية بن خلف. لكن العقوبة الحقيقية التي ستتبع هذا العذاب ستكون في الآخرة، حيث سيكون الجزاء النهائي على كل عمل قام به في حياته.
-
التأثير الرمزي للعقاب: إنَّ كون العقاب عبارة عن “سم” على “الخرطوم” هو اختيار دقيق للغاية. فالسم في اللغة العربية يُعتبر من أشد أنواع الأذى، الذي لا يُشافى منه، مما يجعل العقوبة في الآية تبرز كونها شديدة وقوية. أما الخرطوم الذي يوضع عليه هذا “السم”، فهو أيضًا يعكس العار والشهرة، بمعنى أنه ستكون هذه العقوبة شديدة الوضوح، ولن ينسى الناس هذا الشخص.
التفسير الروحي والفلسفي للآية
بعيدًا عن الفهم الظاهر لهذه الآية كوعيد مباشر لشخص بعينه، يمكن أن نأخذها في سياق روحي أوسع. فهي دعوة للابتعاد عن الظلم والجور، والتمسك بالعدل والإنصاف. هذا المعنى الروحي يرتبط ارتباطًا وثيقًا مع العديد من تعاليم الإسلام التي تحث على العدالة الاجتماعية، ونصرة المظلومين، ورفض الظلم بجميع أشكاله.
الآية تقدم أيضًا درسًا في عواقب الأفعال. فإن الظالمين، وإن تظاهروا بالقوة والسلطة في الدنيا، فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن ينزل بهم العقوبات التي تشوه سمعتهم وتفضحهم في الدنيا قبل الآخرة. وهذه رسالة قوية لكل من يعتقد أن الظلم سيبقى طي الكتمان ولن يعاقب عليه.
مراجعات تفسيرية عبر العصور
على مر العصور، قدم العديد من العلماء والمفسرين تفسيرات مختلفة لهذه الآية. بعضهم ربطها بالقيم الأخلاقية والعدلية في المجتمع، مشيرين إلى أن العقاب الذي ذكرته الآية ليس مجرد انتقام من أعداء الإسلام بل هو درس للإنسانية. فالعقوبات التي ينزلها الله على الظالمين هي بمثابة رسائل تحذيرية للأجيال المقبلة، لتفادي الوقوع في نفس الأخطاء.
البعض الآخر من المفسرين أكد أن هذه الآية كانت تتعلق بموقف معين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وتنبأت بمصير شخص معروف. لكن مع مرور الزمن، أصبحت هذه الآية تحمل دلالة أشمل وأكثر عمقًا، فالكلام فيها يتجاوز الحدث الذي وقع في زمن النبي ليشمل ظاهرة الظلم في أي زمان ومكان.
خاتمة
إنَّ تفسير آية “سَنَسْمُهُ عَلَى الْخَرْطُومِ” لا يقتصر فقط على شرح الكلمات والألفاظ التي وردت فيها، بل يتعداها إلى فهم السياق التاريخي والروحي لهذه الآية. ففي النهاية، هي دعوة للتأمل في العواقب التي سيواجهها الظالمون، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وهي تذكير للمسلمين بضرورة التمسك بمبادئ العدل والإنصاف في كل تفاصيل حياتهم.
