تغيير المنكر في الإسلام

حديث: “من رأى منكم منكرًا” – معناه وأبعاده في حياة المسلم

إن الحديث الشريف: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” هو حديث نبوي عظيم أرسى قواعد التغيير والإصلاح في المجتمع الإسلامي. وقد ورد هذا الحديث في صحيحي مسلم والبخاري، وهو من الأحاديث التي تحمل بين طياتها معاني عميقة وتوجيهات شرعية تتعلق بدور المسلم في محاربة المنكرات وتغيير الأوضاع غير الصالحة في مجتمعه. ومن خلال هذا الحديث، نجد أن الإسلام قد وضع منهجًا واضحًا للتعامل مع المنكرات في المجتمع وأعطى أتباعه أدوات للتغيير، تبدأ من العمل الجسدي، ثم اللفظي، ثم القلبي، مع التأكيد على أن هذه العمليات لا تتم إلا ضمن شروط شرعية دقيقة.

1. معنى المنكر

المنكر في اللغة هو ما يُنكَر ويُرفض، أي ما يتعارض مع الفطرة السليمة أو القيم الأخلاقية، وهو يتضمن الأعمال التي تخالف شرع الله وتؤدي إلى الفساد في الأرض. وقد يكون المنكر في شكل محرمات ظاهرة، كالشرب والسرقة والزنا، أو يكون في صورة ممارسات اجتماعية خاطئة تُؤثّر سلبًا على وحدة المجتمع وتماسكه. لذا، من واجب المسلم أن لا يقف مكتوف اليدين أمام المنكرات، بل يجب أن يتخذ المواقف اللازمة لتغييرها. لكن التغيير ليس عملية عشوائية أو فردية، بل هي عملية موجهة وفق معايير شرعية وتدرج في الوسائل.

2. تغيير المنكر باليد

يبدأ الحديث ببيان أن المسلم الذي يرى منكرًا يجب أن يسعى لتغييره بيده. وهذه الدعوة تتناسب مع الحالات التي يمكن فيها للإنسان أن يتدخل مباشرة لتغيير الوضع القائم. ومن الأمثلة التي قد يتم فيها التغيير باليد، تلك التي تتعلق بالأعمال التي تُرتكب علنًا ويمكن للمسلم أن يتدخل لوقفها، مثل منع شخص من ارتكاب جريمة علنية أو منع مفسدة قد تنتشر في المجتمع.

ومع ذلك، فإن استخدام اليد للتغيير لا يعني أن كل شخص يملك حق التدخل الجسدي في كل موقف. فالشريعة الإسلامية تُحدّ من استخدام القوة الجسدية إلا في حالات معينة، مثلما في حالة الدفاع عن النفس أو مواجهة الاعتداء على المجتمع. التغيير باليد يتطلب حكمة ووعيًا تامًّا بحدود القانون الإسلامي وأخلاقياته. فلا يجوز استخدام العنف إلا في أضيق الحدود ومع التزام الشرع.

3. تغيير المنكر باللسان

إذا كان التغيير باليد غير ممكن أو غير مناسب، يتحول المسلم إلى وسيلة أخرى وهي التغيير باللسان. وهذا يشمل النصح والإرشاد، سواء كان من خلال خطاب مباشر أو عبر استخدام الكلمات المناسبة واللطيفة لبيان الحق وإصلاح الأوضاع. وفي هذا السياق، تكون النصيحة في الإسلام من أهم وسائل الإصلاح الاجتماعي. يجب على المسلم أن يتحدث بصدق وأمانة، ويقدم الحجة الواضحة والمبنية على العلم، دون أن يتنمر أو يستعلِي على الآخرين.

التغيير باللسان هو الوسيلة التي يمكن استخدامها في الحالات التي لا يمكن فيها التدخل الجسدي، كالتحدث عن قضايا اجتماعية أو دينية أمام جمهور أو التعامل مع أشخاص في مكان العمل أو الأسرة. كما أن هذه الوسيلة لا تقتصر على قول الحق فقط، بل أيضًا على تنبيه الناس إلى أهمية الالتزام بالأخلاق الدينية والإنسانية.

4. تغيير المنكر بالقلب

أما إذا لم يستطع المسلم تغيير المنكر بيده أو لسانه، فإنه ينتقل إلى أبسط الوسائل، وهي تغيير المنكر بالقلب. ويعني ذلك أن يشعر المسلم بالكراهية لهذا المنكر ويشعر بالاستياء من وجوده. هذا هو “أضعف الإيمان”، ولكنه يعد بداية مهمة في مسار الإصلاح، إذ يُحسّن من توجهات المسلم النفسية ويجعله مستعدًا أكثر للبحث عن السبل المناسبة لتغيير الواقع.

لا يعني تغيير المنكر بالقلب أن يكتفي المسلم بمجرد شعور داخلي دون أن يسعى لتغيير الوضع خارجيًا. بل هذا الشعور هو المحفز الذي يساعد الفرد على السعي لتحسين الوضع من خلال الوسائل الأخرى. وفي بعض الأحيان، قد يكون التغيير بالقلب هو الخيار الوحيد المتاح، خصوصًا في حالات ضعف السلطة أو القمع أو في المجتمعات التي يسيطر فيها الفساد.

5. التدرج في التغيير

الحديث النبوي يشير إلى التدرج في عملية التغيير، فالتغيير باليد هو الأكثر قوة ثم يأتي بعده التغيير باللسان، وفي النهاية يأتي التغيير بالقلب. هذا التدرج في الوسائل يُظهر الفهم العميق لكيفية تغيير المنكرات في الواقع. لا يمكن أن يفرض الإنسان رأيه بالقوة دائمًا، بل يجب أن يُراعى السياق والبيئة، خاصة في المجتمعات التي قد يكون فيها أي شكل من أشكال التدخل القسري له عواقب سلبية كبيرة.

ويجب أن يكون هذا التغيير مدروسًا ومتوازنًا، بحيث لا يؤدي إلى تفاقم المشكلة أو خلق أزمات إضافية. من هذا المنطلق، نجد أن الحديث النبوي يعزز مبدأ “التعامل مع الناس بما يليق بهم”، فلا يمكن فرض التغيير بالقوة أو العنف إلا في الحالات الاستثنائية.

6. دور العلماء والدعاة في التغيير

للعلماء والدعاة دور كبير في تنفيذ هذا الحديث النبوي، من خلال الوعظ والإرشاد وإقامة الحجة على الناس. فهم من يمتلكون العلم الكافي لتمييز المنكرات وأسبابها وطرق معالجتها. وبالتالي، يُعتبر العلماء والدعاة أصحاب مسؤولية أكبر في عملية التغيير داخل المجتمعات الإسلامية. إن دعوتهم إلى الله وتوجيهاتهم عبر الندوات، المحاضرات، والمقالات تُعد وسائل مؤثرة لتغيير الأوضاع وتوجيه المجتمع نحو الأفضل.

ومن الضروري أن تكون رسالتهم واضحة، تهدف إلى تعزيز القيم الإسلامية الحقيقية، وتقديم الحلول الناجعة للمشاكل الاجتماعية التي يعاني منها الأفراد. التغيير لا يقتصر فقط على الدعوة الدينية، بل يشمل أيضًا التوجيه الاجتماعي والنفسي الذي يعين الأفراد على التغيير الذاتي وتطوير سلوكهم.

7. الخلاصة

إن حديث “من رأى منكم منكرًا فليغيره” يحمل في طياته معاني عميقة تتعلق بدور المسلم في الإصلاح الاجتماعي. فمن خلال التدرج في الوسائل، يبدأ التغيير من التفاعل الجسدي، ثم اللفظي، ثم القلبي. وهذه الوسائل تتطلب من المسلم أن يتحلى بالحكمة، وأن يوازن بين الظروف المحيطة به ووسائل التغيير المتاحة. كما يُعتبر العلماء والدعاة في مقدمة المسؤولين عن توجيه الناس نحو التغيير الصحيح. ومع ذلك، تظل الإرادة الفردية هي الأساس في السعي لتغيير المجتمع إلى الأفضل.