تعلّم وانس وأعد التعلّم: الوجه المتغير لمسيرتك الهندسية
في عصر يتسارع فيه التطور التكنولوجي والتغيرات الصناعية، لم تعد المسيرة الهندسية مجرد رحلة ثابتة تعتمد على ما تعلمته في بداية مشوارك المهني، بل أصبحت عملية ديناميكية تتطلب قدرة مستمرة على التعلّم، النسيان، وإعادة التعلّم. هذه العملية تشكل الوجه الحقيقي لمسيرتك الهندسية، إذ أنها تعكس مدى مرونتك في التكيف مع المستجدات، واستعدادك لتجاوز المفاهيم التقليدية التي قد تصبح عقبة في طريق الابتكار والتطور المهني.
أهمية التعلّم المستمر في الهندسة
الهندسة، بطبيعتها، مجال يعتمد بشكل كبير على المعرفة الدقيقة والمحدثة في مجالات متعددة مثل الرياضيات، الفيزياء، البرمجيات، والمواد العلمية. ولكن مع تسارع وتيرة التقدم، لم تعد المعرفة في الهندسة ثابتة أو جامدة، بل هي متغيرة ومتجددة باستمرار. لذلك، فإن التعلّم المستمر ليس رفاهية أو خيارًا، بل ضرورة لا غنى عنها للحفاظ على القدرة التنافسية وتحقيق النجاحات المهنية.
عندما يبدأ المهندس مسيرته، يعتمد غالباً على المعارف والمهارات التي اكتسبها خلال دراسته الجامعية أو تدريبه الأولي. لكن بعد فترة وجيزة، تبدأ الحاجة إلى تحديث هذه المعرفة ومواكبة التقنيات الحديثة، سواء كانت تقنيات في مجال الذكاء الاصطناعي، تصميم البرمجيات، أو تطبيقات الهندسة المستدامة. لذلك، التعلّم المستمر يعزز من مهارات المهندس ويجعله جاهزًا لمواجهة التحديات المتجددة.
النسيان كجزء من التعلّم الهندسي
النسيان هنا لا يعني فقدان المعرفة أو ضعف الاحتفاظ بها، بل هو إعادة ترتيب أولوية المعرفة والمهارات. ففي كثير من الأحيان، يمكن أن تصبح بعض المعلومات التي تعلمها المهندس في السابق غير ذات فائدة أو حتى معيقة إذا تمسك بها بشدة دون تحديثها أو مراجعتها. هذا “النسيان الانتقائي” هو عملية عقلية هامة تسمح للمهندس بالتخلص من الأساليب القديمة أو غير الفعالة واستبدالها بأفكار وتقنيات حديثة.
مثال على ذلك، عندما يعتاد المهندس على استخدام برنامج تصميم معين ويصبح متمسكًا به رغم ظهور أدوات أحدث وأكثر كفاءة، يصبح النسيان لهذه الأدوات القديمة ضرورة لتبني الجديد. هذه القدرة على “نسيان” ما هو قديم أو غير ملائم تتيح له الاستمرار في التطور والتأقلم مع متطلبات سوق العمل.
إعادة التعلّم: جوهر التحديث المهني
بعد مرحلة النسيان، تأتي مرحلة إعادة التعلّم، وهي الأهم في مسيرة المهندس المهنية. إعادة التعلّم تعني قبول أن المعرفة ليست ثابتة، وأنه من الضروري أن يعيد المهندس بناء معرفته أو مهاراته بناءً على المستجدات التكنولوجية أو متطلبات المشاريع الجديدة. هذه المرحلة تستوجب انفتاحًا ذهنيًا ومرونة فكرية لتقبل الأفكار الجديدة وتطبيقها بفعالية.
على سبيل المثال، في الهندسة المدنية، قد يحتاج المهندس إلى إعادة تعلّم استخدام مواد بناء جديدة مستدامة أو تقنيات حديثة لتحليل الهياكل لمواجهة متطلبات البيئات الحضرية المتطورة. أما في الهندسة الكهربائية، فقد تكون الحاجة ملحة لتعلّم البرمجة المتقدمة أو فهم أنظمة الذكاء الاصطناعي لتطوير أنظمة ذكية في السيارات أو الأجهزة المنزلية.
التعلّم والنسيان وإعادة التعلّم في سياق التطور التقني
تُعد هذه الدورة الثلاثية — التعلّم، النسيان، إعادة التعلّم — ضرورية خصوصًا في ظل الثورة الصناعية الرابعة والتحول الرقمي الذي يشهده العالم. فالتطورات التكنولوجية المستمرة، مثل الذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، الطباعة ثلاثية الأبعاد، والطاقة المتجددة، تستدعي من المهندس تحديث معرفته بشكل متكرر.
تتطلب كل تقنية جديدة فهمًا جديدًا للعمليات والتطبيقات، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال إعادة بناء المعرفة السابقة وتطوير مهارات جديدة. في هذا السياق، يصبح المهندس ليس مجرد منسق بين المعرفة التقليدية والتطبيقات العملية، بل هو باحث دائم، متعلم مرن، قادر على التكيف مع المتغيرات دون أن يعطل مسيرته المهنية.
أثر هذه العملية على مسيرة المهندس المهنية
تعزيز القدرة على الابتكار
من خلال التعلّم المتجدد والقدرة على التخلي عن الأساليب القديمة، يتمكن المهندس من استكشاف أفكار جديدة وابتكارات تواكب العصر. هذه المرونة المعرفية تساعد على تجاوز القوالب النمطية وتفتح آفاقًا أوسع للبحث والتطوير.
مواكبة متطلبات سوق العمل
سوق العمل الهندسي اليوم يتطلب مهارات حديثة لا تقتصر فقط على المعرفة التقنية، بل تشمل القدرة على التعامل مع الأدوات الرقمية الجديدة، العمل الجماعي عبر المنصات الافتراضية، وفهم البيئة الاقتصادية المتغيرة. إعادة التعلّم تضمن بقاء المهندس على اتصال دائم بهذه المتطلبات.
بناء شخصية مهنية قوية
القدرة على النسيان وإعادة التعلّم تعكس مستوى عالٍ من النضج المهني والذكاء العاطفي، مما يساعد المهندس على تقبل النقد، التعامل مع الفشل، وتحويل التجارب السلبية إلى فرص للتعلم والتطور.
التحديات التي تواجه التعلّم والنسْي وإعادة التعلّم
رغم أهمية هذه العملية، تواجه العديد من المهندسين صعوبات في تبنيها، أهمها:
-
التمسك بالمألوف: الخوف من التغيير والرغبة في الاستقرار على المعرفة القديمة قد تقيد قدرة المهندس على التقدم.
-
ضغط العمل: قد يعيق ضغط المشاريع وسرعة الإنجاز وقت التعلّم وإعادة التعلّم.
-
قلة المصادر المناسبة: عدم توفر الموارد أو الدورات التدريبية الملائمة لتحديث المهارات يؤثر سلبًا.
-
القلق من الفشل: القلق من عدم النجاح في التعلّم الجديد أو تطبيق التقنيات الحديثة قد يثني المهندسين عن المحاولة.
استراتيجيات فعالة للتعلّم والنسْي وإعادة التعلّم
لتجاوز هذه التحديات، يمكن اتباع بعض الاستراتيجيات التي تعزز من فاعلية التعلّم المستمر:
-
تحديد أولويات التعلّم: التركيز على المهارات والمعارف التي تتوافق مع التوجهات المستقبلية للصناعة.
-
المشاركة في ورش العمل والدورات التدريبية: استثمار الوقت في التدريب المستمر سواء عبر الإنترنت أو حضورياً.
-
التعاون مع فرق متعددة التخصصات: الانخراط في مشاريع مشتركة يتيح تبادل المعرفة وتوسيع المدارك.
-
استخدام التقنيات الحديثة: الاستفادة من أدوات التعليم الرقمي مثل الواقع الافتراضي والمحاكاة.
-
التقييم الذاتي المستمر: مراجعة نقاط القوة والضعف لتوجيه جهود التعلّم بفعالية.
دور المؤسسات التعليمية والشركات في دعم هذه العملية
لا يمكن للمهندس وحده أن يتحمل مسؤولية التعلّم المستمر دون دعم من المؤسسات التعليمية والشركات التي يعمل بها. دور الجامعات يجب أن يتطور ليشمل تعليم مهارات إعادة التعلّم والمرونة الذهنية بجانب المعرفة التقنية، كما يجب أن توفر فرص التدريب والتطوير المهني المستمر.
أما الشركات، فدعم ثقافة التعلم داخل بيئة العمل من خلال برامج تطوير الموظفين، تشجيع الابتكار، وتوفير الوقت المناسب للتعلم يساهم بشكل كبير في تعزيز مسيرة المهندس المهنية وضمان بقائه مواكبًا لأحدث التقنيات.
خاتمة
المسيرة الهندسية في العصر الحديث ليست ثابتة أو محددة بمعارف جامدة، بل هي عملية مستمرة من التعلّم، النسيان، وإعادة التعلّم. هذه العملية تمثل الديناميكية الحقيقية لمسيرة المهندس المهنية، حيث تمكنه من التكيف مع المتغيرات المتسارعة، تعزيز الابتكار، ومواكبة متطلبات السوق المتجددة. التحديات التي تواجه هذه العملية ليست بسيطة، لكنها قابلة للتجاوز من خلال استراتيجيات مدروسة ودعم مؤسسي فعّال. في النهاية، المهندس الذي يتقن فن التعلّم وإعادة التعلّم هو من يستطيع أن يصنع الفرق ويترك بصمة واضحة في مجاله.
المراجع:
-
Senge, P. M. (2006). The Fifth Discipline: The Art & Practice of The Learning Organization. Currency Doubleday.
-
Argyris, C., & Schön, D. A. (1996). Organizational Learning II: Theory, Method, and Practice. Addison-Wesley.
