هل يتعلّم الدماغ البشري اليقظة والانتباه؟
الدماغ البشري هو أكثر الأعضاء تعقيدًا في جسم الإنسان، وقد أثار هذا التعقيد فكر العلماء والباحثين في مجالات علم الأعصاب والطب النفسي لفترات طويلة. إحدى السمات البارزة للدماغ هي قدرته على التكيف والتعلم، مما يتيح له تحسين أدائه في مختلف الوظائف المعرفية. من بين هذه الوظائف، تبرز اليقظة والانتباه كأحد أعمق الموضوعات التي يدرسها العلماء في الوقت الحالي. فما هو اليقظة؟ وكيف يختلف عن الانتباه؟ وهل يمكن للدماغ البشري تعلّم هذه القدرات وتحسينها؟
ما هي اليقظة والانتباه؟
قبل التطرق إلى كيفية تعلم الدماغ لهاتين الحالتين، من الضروري أولاً تعريفهما بوضوح.
اليقظة هي حالة من الوعي الكامل بالبيئة المحيطة وبالعمليات الداخلية للعقل. إنها تعني أن الفرد في حالة من الانتباه الكامل والتفاعل مع اللحظة الحالية، دون انشغال بأفكار أو مشاعر ماضوية أو مستقبلية. تتطلب اليقظة تنشيط مجموعة من الشبكات العصبية التي تسمح للدماغ بالتركيز على الحاضر. يرتبط هذا المفهوم بممارسات مثل التأمل والتمارين الذهنية التي تهدف إلى تعزيز القدرة على الوجود الكامل في اللحظة الراهنة.
أما الانتباه فيشير إلى القدرة على تخصيص الموارد العصبية للتركيز على محفزات معينة، سواء كانت بيئية أو داخلية. بمعنى آخر، يمكن اعتبار الانتباه عملية انتقاء أو اختيار للمعلومات التي سيتم معالجتها من بين العديد من المحفزات. ويمكن أن يكون الانتباه قصير المدى (مثل التركيز على شيء لفترة قصيرة) أو طويل المدى (مثل متابعة نشاط ذهني على مدار فترة طويلة).
هل يمكن للدماغ تعلم اليقظة والانتباه؟
الجواب المختصر هو نعم. اليقظة والانتباه يمكن تعليمهما للدماغ البشري من خلال التمرين المنتظم والممارسات المعرفية. هذا يعد جزءًا من مجال أبحاث المرونة العصبية أو التكيف العصبي، الذي يشير إلى قدرة الدماغ على تغيير بنيته ووظائفه استجابة للتجربة.
المرونة العصبية: كيف يتكيف الدماغ؟
المرونة العصبية هي عملية يتكيف فيها الدماغ مع الخبرات والتحديات الجديدة. في الماضي، كان يُعتقد أن الدماغ بعد فترة الطفولة لا يمكنه أن يتغير بشكل كبير. لكن الأبحاث الحديثة أثبتت أن الدماغ، حتى في مراحل متقدمة من العمر، يمكنه تشكيل وصلات عصبية جديدة والتكيف مع المهام المختلفة.
فيما يتعلق باليقظة والانتباه، أظهرت الدراسات أن التدريب العقلي والتمارين مثل التأمل الذهني (Mindfulness) يمكن أن يحدث تغيرات هيكلية في الدماغ. على سبيل المثال، قد يزيد التأمل من كثافة المادة الرمادية في مناطق الدماغ المسؤولة عن الانتباه والوعي الذاتي، مثل القشرة الجبهية الأمامية. هذه التغيرات الهيكلية تساعد الدماغ على أن يصبح أكثر قدرة على الحفاظ على التركيز والانتباه على المهام أو الأحداث الحاضرة.
كيف يتعلم الدماغ اليقظة؟
التأمل والتمارين الذهنية هي من أبرز الطرق التي يُتعلم من خلالها الدماغ أن يكون أكثر يقظة. تشمل هذه الممارسات التركيز الكامل على التنفس، الاستماع إلى الأصوات المحيطة، أو حتى متابعة الأفكار والمشاعر دون الانغماس فيها. التدريب المستمر على هذه الممارسات يساهم في:
- تقوية الانتباه الانتقائي: أي القدرة على التركيز على شيء واحد دون التشتت بالمحفزات الأخرى.
- تحسين الوعي الذاتي: تعزيز القدرة على التعرف على المشاعر والأفكار، مما يزيد من قدرة الشخص على التعامل مع الضغوط.
- الحد من التشتت الذهني: عندما يتدرب الدماغ على تركيز الانتباه على الحاضر، يقل تشتت الأفكار والمشاعر غير الضرورية.
يُظهر الباحثون أن التمرينات المنتظمة على اليقظة يمكن أن تُحسن من القدرة على التحكم في الانتباه وتقلل من مستويات التوتر والقلق، مما يجعل الدماغ أكثر قدرة على التفاعل مع اللحظة الراهنة.
كيف يتعلم الدماغ الانتباه؟
مثلما يحدث مع اليقظة، يمكن للدماغ أيضًا تحسين قدراته على الانتباه من خلال التمرين والممارسة. النشاط العقلي الذي يتطلب من الفرد التركيز على مهمة معينة بشكل مستمر، مثل القراءة أو حل الألغاز أو تعلم مهارة جديدة، يعمل على تعزيز كفاءة الشبكات العصبية المسؤولة عن الانتباه.
أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين يتدربون على مهارات مثل القراءة بتركيز، أو القيام بألعاب عقلية مثل الشطرنج أو الألغاز، يظهرون تحسنًا في الانتباه المستمر. هناك نوعان من الانتباه يساهم التمرين في تحسينهما:
- الانتباه الانتقائي: القدرة على التركيز على مهمة معينة وتجاهل المحفزات المتعددة.
- الانتباه المستمر: القدرة على الحفاظ على التركيز والانتباه على مدى فترة طويلة.
تتدخل الذاكرة العاملة أيضًا في الانتباه، فكلما كانت الذاكرة العاملة أكثر كفاءة، كلما تمكن الدماغ من التحكم بشكل أفضل في الانتباه.
هل هناك عوامل تؤثر على قدرة الدماغ على تعلم اليقظة والانتباه؟
بالرغم من قدرة الدماغ على تعلم اليقظة والانتباه، إلا أن هناك بعض العوامل التي قد تؤثر على هذه القدرة، ومنها:
- العمر: يمكن للأطفال أن يتعلموا اليقظة والانتباه بسهولة أكبر من البالغين، حيث أن أدمغتهم في مرحلة التطور العصبي.
- الصحة النفسية: الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب أو اضطراب نقص الانتباه (ADHD) قد يواجهون تحديات أكبر في تعلم هذه المهارات.
- الممارسة المنتظمة: كما هو الحال مع أي مهارة، فإن التعلم المستمر والمتابعة المنتظمة هما العاملان الأساسيان لتحسين اليقظة والانتباه.
- البيئة المحيطة: البيئة الهادئة والمستقرة تساعد الدماغ على تحسين اليقظة والانتباه، بينما قد تعيق البيئات المزدحمة أو المشوشة هذه العمليات.
كيف يمكن تحسين اليقظة والانتباه في حياتنا اليومية؟
هناك العديد من الطرق التي يمكن من خلالها تحسين اليقظة والانتباه في حياتنا اليومية، ومنها:
- ممارسة التأمل: يمكن تخصيص بضع دقائق يوميًا لممارسة التأمل الذهني.
- تنظيم بيئة العمل: تقليل المشتتات في البيئة المحيطة يمكن أن يساعد في الحفاظ على الانتباه.
- تقنيات التنفس العميق: يمكن لتقنيات التنفس أن تساعد في تهدئة العقل وزيادة اليقظة.
- التغذية السليمة: التغذية الصحية لها دور في تحسين الوظائف العقلية، بما في ذلك الانتباه.
- التمارين البدنية: تساعد التمارين الرياضية في تنشيط الدماغ وتحسين وظائفه المعرفية.
الخاتمة
اليقظة والانتباه هما من القدرات المهمة التي يمتلكها الدماغ البشري، ويمكن تعلمهما وتحسينهما من خلال التمرين المنتظم. الدماغ ليس مجرد جهاز ثابت، بل هو كائن حي يتمتع بالقدرة على التكيف والتعلم، مما يعزز قدرته على التركيز والانتباه على الحاضر. عبر تقنيات مثل التأمل الذهني والتمارين العقلية، يمكن تحسين هذه القدرات، مما يؤدي إلى تحسين الأداء العقلي والصحة النفسية بشكل عام.