هل يجوز المدح الكاذب بين الزوجين؟! دراسة شرعية ونفسية واجتماعية

في العلاقات الزوجية، يشكّل الثناء المتبادل بين الزوجين أحد أعمدة بناء الثقة والتقدير والحب المستمر. لكن عندما يتحول هذا الثناء إلى «مدح كاذب»، تتداخل الجوانب الشرعية والنفسية والاجتماعية لتطرح تساؤلات جوهرية حول مدى جواز هذا السلوك وأثره الحقيقي. المدح الكاذب بين الزوجين هو نوع من التغاضي أو المبالغة في الصفات أو الإنجازات أو المظهر بقصد التودد أو استرضاء الطرف الآخر، وقد يُعد في بعض الأحيان نوعًا من «الكذب الأبيض». ولكن، هل هذا السلوك محمود شرعًا؟ وما مدى تأثيره على الصحة النفسية واستقرار الأسرة؟ وهل يُعد من وسائل التعبير عن الحب، أم أنه بوابة لزعزعة الصدق والثقة؟

الإطار الشرعي: الكذب بين التحريم والرخصة

الكذب في الإسلام

الكذب في الشريعة الإسلامية يُعد من الكبائر، وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية تحذيرات شديدة منه، منها قوله تعالى:

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر: 28]

كما قال النبي ﷺ:

“وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار” (رواه البخاري ومسلم).

استثناءات الكذب في الإسلام

ومع ذلك، فقد وردت استثناءات محددة وردت في حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها، أن النبي ﷺ قال:

“ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا أو يقول خيرًا” (رواه البخاري ومسلم).

وفي رواية أخرى ورد أن الكذب يُرخّص فيه في ثلاث حالات: “في الحرب، ولإصلاح ذات البين، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها” (رواه أبو داود).

إذن، من الجانب الشرعي، يُستثنى من تحريم الكذب ما كان بين الزوجين في إطار تقوية العلاقة وتحقيق المودة، وليس الخداع أو التزوير أو التمويه المتعمّد للحقائق المهمة.

المدح الكاذب بين الزوجين: تحليل لغوي وسلوكي

المدح في اللغة هو الثناء على الشخص بما فيه أو بما ليس فيه. فإذا كان في الشخص الصفات المذكورة، فهو مدح صادق، أما إن لم تكن فيه فهو «مدح كاذب».

في الحياة الزوجية، غالبًا ما يُستخدم المدح كأداة لتحفيز العاطفة أو تجنب الخلاف أو رفع المعنويات. لكن عندما يتجاوز المدح حدّه ليصبح وسيلة لتجميل الباطل أو التستر على عيوب خطيرة أو دعم السلوكيات السلبية، يتحول إلى مصدر خطير لزعزعة القيم داخل العلاقة.

أنواع المدح الكاذب

الأثر النفسي للمدح الكاذب

علم النفس يؤكد أن الثناء الصادق يعزز الشعور بالأمان والانتماء والرضا الذاتي، بينما المدح الكاذب – خصوصًا إذا تكرر واكتُشف – يُسبب أثرًا عكسيًا تمامًا.

الأضرار النفسية

1. فقدان الثقة: إذا شعر أحد الزوجين أن الآخر يمدحه بما لا يراه حقيقيًا، قد يُفسر ذلك كتلاعب أو استهانة بذكائه.

2. الاضطراب العاطفي: الشعور بالتناقض بين المدح والواقع يسبب حيرة واضطراب في مشاعر التقدير الذاتي.

3. بناء صورة زائفة: المدح الكاذب يُساهم في بناء صورة غير واقعية عن الذات، مما يؤدي إلى صدمات لاحقة عند الاصطدام بالواقع.

4. الإفراط في التوقعات: الزوج أو الزوجة قد يعتقد فعليًا أنه يمتلك صفات عظيمة مما يدفعه إلى التراخي في تطوير نفسه.

المدح الإيجابي: البديل الشرعي والنفسي

من الأجدى أن يُستخدم ما يُسمى بـ«المدح البنّاء» الذي يجمع بين الصدق والتحفيز. على سبيل المثال، بدلاً من قول: “أنت الأذكى على الإطلاق”، يمكن قول: “أعجبني كيف فكرت في حل المشكلة بطريقة ذكية”.

هذا النوع من المدح يُعتبر مقبولًا من كل الزوايا:

• شرعيًا: لأنه لا يتضمن كذبًا.

• نفسيًا: لأنه يعزز السلوك الإيجابي ويعطي الطرف الآخر شعورًا حقيقيًا بالإنجاز.

• اجتماعيًا: لأنه يبني تواصلًا فعالًا بين الزوجين.

البعد الاجتماعي والأسري

العلاقات الأسرية الناجحة تبنى على ثلاث ركائز: الصدق، الثقة، والاحترام. والمدح الكاذب يُقوض هذه الركائز تدريجيًا.

في المجتمعات العربية، كثيرًا ما يُغلف الكذب بحجة الحفاظ على المودة أو تفادي المشكلات، لكن هذا لا يبرر استخدام الكذب كوسيلة دائمة في العلاقة الزوجية. الأسرة التي تُبنى على المجاملات الزائفة تعيش توترًا مزمنًا وتفتقر للشفافية.

آراء العلماء والدعاة

أجمع العلماء المعتبرون على أن الكذب بين الزوجين لا يُرخّص فيه إلا في حدود ضيقة، وبنية الإصلاح والتقارب وليس الخداع.

قال الإمام النووي:

“المراد بالكذب المباح ما فيه إصلاح فقط، أما ما عدا ذلك فهو محرم”.

كما أشار الشيخ ابن عثيمين إلى أن ما يُراد به الكذب في الحديث بين الزوجين هو التعبير العاطفي الذي لا يترتب عليه خداع حقيقي، مثل قول الرجل لزوجته: “أنتِ أحب الناس إليّ”، وإن لم يكن كذلك بالترتيب الدقيق.

متى يُصبح المدح الكاذب محرّمًا شرعًا؟

1. إذا تضمن تزويرًا للحقائق التي تؤثر على قرارات مصيرية (مثل مدح طبع سيء قد يؤدي إلى ظلم أو ضرر).

2. إذا استُخدم لتحقيق مصالح شخصية على حساب الآخر.

3. إذا أدى إلى الإضرار بمشاعر الطرف الآخر أو استغلاله.

4. إذا تكرّر بشكل منهجي حتى صار نمطًا سلوكيًا يُفقد العلاقة صدقها وجوهرها.

التوازن بين العاطفة والصدق

المدح العاطفي المقبول هو ما يعبّر عن الحب ويُشعر الطرف الآخر بقيمته، دون الحاجة لتزييف الواقع. الزوجة تحتاج إلى سماع كلمات الإعجاب، لكن لا تود أن تُخدع. والزوج يحب أن يُشعَر بأنه مميز، لكن ليس على حساب الحقيقة.

التوازن يتمثل في الجمع بين الصدق واللطف، بين الإعجاب الحقيقي والتحفيز الأخلاقي. ويمكن استخدام تعبيرات لغوية مثل:

• “أنتِ دائمًا تحاولين إسعادي، وأقدّر ذلك جدًا”.

• “يعجبني فيكِ حرصك على التفاصيل”.

• “أسلوبكِ اليوم في الحديث كان جذابًا فعلًا”.

خاتمة

المدح الكاذب بين الزوجين ليس دائمًا سلوكًا محرمًا، بل قد يكون مباحًا إن كان الهدف منه هو تعميق المودة وتحقيق التفاهم دون خداع أو ضرر. ومع ذلك، الإفراط فيه وتحويله إلى أداة تزييف للواقع أو أداة تلاعب نفسي، يُعد أمرًا مرفوضًا شرعًا ونفسيًا وأخلاقيًا. الأفضل دائمًا أن يكون المدح صادقًا، محفزًا، ومبنيًا على الحقيقة، ليبني علاقة مستقرة قائمة على الصراحة والاحترام.

المصادر:

• صحيح البخاري ومسلم

• شرح النووي على مسلم

• فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية