حقيقة تعدُّد المهام وتقنيات زيادة التركيز على مهمة واحدة

في عصر السرعة والمعلومات المتدفقة باستمرار، أصبح مصطلح “تعدد المهام” أو Multitasking من المفاهيم الرائجة في بيئة العمل الحديثة، بل ويُنظر إليه أحيانًا على أنه مهارة أساسية للنجاح والإنتاجية. ومع ذلك، فإن الأبحاث العلمية المتعمقة والتجارب السلوكية المتكررة بدأت تكشف عن حقائق مغايرة تمامًا لما هو شائع؛ إذ أن تعدد المهام في كثير من الحالات لا يؤدي إلى زيادة الفعالية، بل يسبب تراجعًا ملحوظًا في الأداء العقلي والذهني. بل يمكن القول إن العقل البشري ليس مصممًا في الأصل للتعامل مع مهام متوازية تتطلب مجهودًا معرفيًا عالياً.

هذا المقال يعالج حقيقة تعدد المهام من منظور علم الأعصاب، وعلم النفس المعرفي، ويستعرض الآثار السلبية لتعدد المهام على الدماغ والإنتاجية، ثم يُفصّل في تقنيات فعّالة وعلمية تهدف إلى زيادة التركيز على مهمة واحدة وتحسين الأداء الذهني.

أولًا: فهم تعدد المهام – وهم الكفاءة العالية

العقل لا يعمل بالتوازي

البشر غالبًا ما يظنون أن بإمكانهم أداء أكثر من مهمة واحدة في الوقت ذاته بكفاءة تامة. لكن الواقع العلمي يناقض هذه القناعة، حيث تشير الدراسات إلى أن الدماغ لا يعمل كجهاز حاسوب مزود بوحدات معالجة متعددة. فعندما نقوم بمهمتين تتطلبان الانتباه المعرفي، مثل الكتابة أثناء الرد على رسائل الهاتف، فإن الدماغ لا يعالج هاتين العمليتين بالتوازي، بل ينتقل بينهما بسرعة كبيرة فيما يسمى بـ**”التحويل المعرفي” (Cognitive Switching)”**.

تكلفة التحويل العقلي

كل مرة يُجبر فيها الدماغ على الانتقال من مهمة إلى أخرى، يُكلَّف طاقة معرفية وزمنًا، حتى وإن بدا الأمر سريعًا. ويُعرف هذا الزمن المهدور علميًا بـ**”تكلفة التحويل”**. ويؤكد باحثو علم الأعصاب أن هذه التكلفة تتراكم وتؤثر على جودة الأداء ودقته.

وقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد أن الأشخاص الذين يعتقدون أنهم بارعون في تعدد المهام يكونون في الواقع أقل كفاءة في تصفية المعلومات غير الضرورية، كما يعانون من صعوبة في التركيز واسترجاع المعلومات لاحقًا.

ثانيًا: الآثار السلبية لتعدد المهام على الدماغ والإنتاجية

تراجع الأداء وجودة النتائج

تشير أبحاث متعددة، مثل تلك المنشورة في مجلة Journal of Experimental Psychology, إلى أن الأشخاص الذين يحاولون أداء أكثر من مهمة معرفية في وقت واحد يرتكبون أخطاء بنسبة تصل إلى 50% أكثر، ويستغرقون وقتًا أطول بنسبة 40% لإنهاء المهام مقارنة بمن يعمل على مهمة واحدة.

الإرهاق الذهني وتسارع الإجهاد العقلي

تعدد المهام يُفرط في استهلاك موارد الدماغ، وخصوصًا قشرة الفص الجبهي المسؤولة عن الوظائف التنفيذية مثل اتخاذ القرار، والتركيز، وتنظيم المهام. هذا الاستهلاك المفرط يؤدي إلى حالة من الإرهاق الذهني والإجهاد العقلي المزمن، خاصة عند تكرار هذه العادة بشكل يومي.

ضعف الذاكرة قصيرة المدى

وجد باحثون في جامعة لندن أن الأشخاص الذين يتنقلون باستمرار بين المهام يظهر لديهم انخفاض في معدل الذكاء المؤقت مشابه لما يحدث عند السهر الطويل أو تعاطي مواد مخدّرة. كما تضعف القدرة على التذكّر قصير المدى، مما يؤثر سلبًا على الأداء العام في التعلم والعمل.

ثالثًا: تقنيات علمية وعملية لتعزيز التركيز على مهمة واحدة

1. تقنية بومودورو (Pomodoro Technique)

تعتمد هذه التقنية على تقسيم وقت العمل إلى فترات زمنية قصيرة (25 دقيقة عادة)، تُتبع بفترة استراحة قصيرة (5 دقائق). بعد أربع فترات عمل، يمكن أخذ استراحة أطول (15–30 دقيقة). هذا الأسلوب يُدرب الدماغ على التركيز المكثف لفترة محدودة، ويمنع التشتت الناتج عن العمل المطول أو الانقطاعات المتكررة.

2. التحديد الواضح للأولويات (Prioritization)

أداة مثل “مصفوفة أيزنهاور” (Eisenhower Matrix) تساعد في تصنيف المهام بحسب أهميتها وإلحاحها. العمل على المهمات “المهمة وغير العاجلة” يساعد في التقدم طويل المدى، بينما المهام “غير المهمة والعاجلة” تُعد من مسببات التشتت المزمن.

3. إزالة المشتتات البيئية

يُعد تقليل الضوضاء البصرية والسمعية والرقمية من أبرز العوامل في تحسين التركيز. ينصح بإغلاق التنبيهات من الهاتف أو البريد الإلكتروني أثناء فترات العمل العميق. أيضًا، يمكن استخدام تطبيقات مخصصة لمنع دخول المستخدم إلى مواقع التسلية خلال وقت العمل، مثل Freedom أو Cold Turkey.

4. تنظيم الوقت الذهني (Mental Timeboxing)

يقوم هذا الأسلوب على تخصيص فترات زمنية لكل نشاط خلال اليوم مسبقًا، بحيث يُمنع التداخل بين الأنشطة أو التشتت في أثناء التنفيذ. هذا التنظيم يدعم العقل في التهيئة المعرفية والتركيز العميق، ويقلل الحاجة إلى التحول المعرفي المجهد.

5. التأمل وتمارين التركيز الواعي (Mindfulness)

أظهرت الأبحاث أن التأمل الواعي يحسن من قدرة الدماغ على مقاومة المشتتات، ويزيد من مدة التركيز العميق. تمارين التركيز الواعي لا تتطلب أكثر من 10–15 دقيقة يوميًا ويمكن أن تتضمن مراقبة التنفس، أو التركيز على الأصوات المحيطة، أو حتى تناول الطعام بوعي تام.

6. النوم والتغذية والرياضة

لا يمكن الحديث عن التركيز دون تضمين العوامل الحيوية الأساسية. النوم غير الكافي يؤدي إلى تراجع ملحوظ في الوظائف المعرفية. أما النظام الغذائي الغني بالأوميغا 3 والبروتينات المعقدة، فيعزز نشاط الدماغ. بينما تسهم التمارين الرياضية في تنشيط الدورة الدموية وتحفيز مناطق الدماغ المسؤولة عن التركيز.

رابعًا: الانتقال من تعدد المهام إلى “التركيز الأحادي” (Monotasking)

التركيز الأحادي كمهارة مكتسبة

الانتقال إلى التركيز الأحادي لا يحدث فجأة، بل يتطلب ممارسة وتدريبًا مستمرًا. يمكن بدء التدرّب على هذا النمط عبر تحديد مهمة واحدة يوميًا يتم إنجازها بتركيز تام دون مقاطعات، ثم تعميم التجربة على مهام أخرى تدريجيًا.

تعزيز بيئة العمل للتركيز

يُنصح بتهيئة بيئة العمل بحيث تكون مخصصة لمهمة واحدة فقط. يمكن مثلاً تخصيص جهاز معين لمهام محددة (مثلاً: حاسوب خاص بالعمل وآخر للترفيه)، أو تخصيص مكتب للعمل وآخر للمطالعة، مما يساعد الدماغ على ربط المكان بوظيفة محددة.

مراقبة الأداء وتقييمه دوريًا

يجب على الفرد أن يقوم بتقييم مدى تحسّنه في تقليل التشتت وزيادة التركيز من خلال تتبع إنجازه اليومي أو الأسبوعي. يمكن استخدام تطبيقات مثل Notion أو Toggl لتوثيق المهام المنجزة والزمن المستغرق، مما يساعد في ملاحظة التقدم وتعزيز الدافع الذاتي.

جدول مقارنة بين تعدد المهام والتركيز الأحادي:

خامسًا: ملاحظات ختامية على المنظور الثقافي والاجتماعي لتعدد المهام

لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه الثقافة المجتمعية في تعزيز أو تثبيط ممارسات تعدد المهام. ففي بيئات العمل السريعة التي تُقاس فيها الكفاءة بعدد المهام المنجزة، يُحتفى غالبًا بتعدد المهام كدليل على الحيوية والإنتاجية، حتى لو كان ذلك على حساب الجودة. بينما في ثقافات أخرى، مثل اليابانية أو الألمانية، يُفضّل التركيز الكامل على مهمة واحدة حتى الإتقان، وهو ما يعزز من قيمة “التركيز الأحادي” كمبدأ أساسي في فلسفة العمل.

كما أن الأنظمة التعليمية التي تعزز التشتت عبر تشجيع الاستجابة المتزامنة لمصادر مختلفة (الشاشة، الكتاب، الواجبات، الرسائل) تسهم في ترسيخ مبدأ تعدد المهام منذ سن مبكرة. لذا من المهم مراجعة هذه الأسس وتربية الأجيال الجديدة على مهارات التركيز والوعي الذاتي.

المصادر:

1. Rubinstein, J. S., Meyer, D. E., & Evans, J. E. (2001). Executive control of cognitive processes in task switching. Journal of Experimental Psychology: Human Perception and Performance.

2. Ophir, E., Nass, C., & Wagner, A. D. (2009). Cognitive control in media multitaskers. Proceedings of the National Academy of Sciences.