تطور الذاكرة في الطفولة المبكرة

كيف تتشكل الذاكرة خلال سنوات العمر الأولى؟

تعد الذاكرة من أعمق العمليات العصبية التي تحدث في الدماغ البشري، وهي التي تساهم في تشكيل وعينا بالعالم من حولنا وتجاربنا الشخصية. وقد أظهرت الأبحاث العلمية أن الذاكرة لا تبدأ في التكوين بعد ولادة الطفل مباشرة، بل هي عملية معقدة تتشكل تدريجياً خلال السنوات الأولى من الحياة. فما هي الآلية التي يمر بها الدماغ لتطوير القدرة على تخزين واسترجاع المعلومات؟ وكيف تتغير أنماط الذاكرة لدى الأطفال مع تقدمهم في العمر؟ في هذا المقال، سنتناول تطور الذاكرة لدى الأطفال خلال سنواتهم الأولى، بما يشمل الأنواع المختلفة للذاكرة وآلية نموها، والعوامل التي تؤثر في تشكيلها.

المرحلة الأولى: تطور الذاكرة في الأشهر الأولى

عند الولادة، يمتلك الطفل قدرة على تذكر بعض الأنماط البسيطة التي يتعرض لها في محيطه، رغم أن القدرة على التذكر الفعلي للمعلومات وتخزينها في الدماغ تكون محدودة للغاية. في هذه المرحلة، يمكن للأطفال تذكر الوجوه والأصوات والروائح المألوفة لهم، مما يساعدهم على تميز الأشخاص المحيطين بهم مثل الوالدين. إلا أن هذه الأنواع من الذكريات لا تُعد ذاكرة طويلة الأمد، بل هي عبارة عن استجابات انعكاسية لأحداث معينة.

خلال الأشهر الأولى من الحياة، يبدأ الدماغ في تشكيل الأسس العصبية التي تدعم الذاكرة المستقبلية. وهذا يشمل تطور المناطق المرتبطة بالذاكرة في الدماغ، مثل الحُصين (Hippocampus) و القشرة الدماغية. وتعتبر الذاكرة الحسية أو “الذاكرة الاستشعارية” النوع الأول من الذاكرة الذي يبدأ في التكون، حيث يربط الدماغ بين المحفزات الحسية من البيئة المحيطة (مثل الصوت، الضوء، أو اللمس) وبين الاستجابات العاطفية أو السلوكية. على الرغم من أن هذه الذاكرة لا تدوم طويلاً، إلا أنها تمهد الطريق لتشكيل أنواع أخرى من الذكريات.

المرحلة الثانية: الذاكرة الانفعالية والإدراك المبكر

بينما يواصل الدماغ نموه، تبدأ الذاكرة الانفعالية في التشكل بعد مرور حوالي ستة أشهر. هذه المرحلة مهمة بشكل خاص لأنها تشير إلى بداية إدراك الطفل لارتباط الأحداث والمواقف بالأحاسيس والعواطف. في هذه الفترة، يبدأ الطفل في ربط الوجوه أو الأصوات المحببة إلى القلب بمشاعر الأمان والحب، وكذلك الوجوه أو الأصوات المرتبطة بالضيق أو القلق.

يشير العلماء إلى أن الذاكرة العاطفية في هذه المرحلة تساهم في بناء العلاقة بين الطفل ووالديه أو مقدمي الرعاية. هذه الذاكرة تُعتبر حجر الأساس لتطوير الذاكرة الاجتماعية، التي تسمح للأطفال بالاستجابة للأفراد بناءً على علاقاتهم السابقة معهم.

المرحلة الثالثة: الذاكرة التصويرية (الصور الذهنية) والذاكرة القريبة

في مرحلة ما بين الستة أشهر إلى السنة، يبدأ الأطفال في تمييز الأشياء والوجوه بشكل أكثر دقة. يمكنهم الآن تذكر الأشكال والألوان بشكل متزايد، وفي بعض الأحيان قد يظهرون رغبة في العودة إلى الأشياء التي تثير اهتمامهم أو التي كانت محط أنظارهم من قبل. هذه الأنواع من الذكريات تدعى الذاكرة التصويرية أو “الذاكرة البصرية”، وهي تُمكّن الطفل من أن يتذكر الصور والأشكال أو المشاهد التي رآها في وقت سابق.

مع تطور هذه الذاكرة، تبدأ أيضاً الذاكرة القريبة في التكون. وهذه الذاكرة تتعلق بالقدرة على تذكر الأحداث أو الأنشطة القريبة أو التي جرت مؤخراً. على سبيل المثال، قد يتذكر الطفل الذي يبلغ عامًا أو أكثر أنه قد لعب مع لعبة معينة أو أنه أكل طعامًا معينًا في وقت سابق. على الرغم من أن هذه الذكريات قصيرة الأجل، إلا أنها تعتبر بداية لتطوير الذاكرة العرضية، التي تختص بتخزين الأحداث التي تحدث في حياة الطفل اليومية.

المرحلة الرابعة: تطور الذاكرة اللفظية والنطق

بينما يتطور النطق واللغة لدى الطفل بين السنة والسنتين، تبدأ الذاكرة اللفظية في التكوّن. مع تعلم الطفل للكلمات الأولى وربطها بالأشياء والأشخاص، يبدأ الدماغ في ربط الكلمات بالذكريات الشخصية التي ترتبط بها. على سبيل المثال، قد يتذكر الطفل كلمة “أمي” ويربطها بحضور والدته أو مشاعر الأمان المرتبطة بها.

يُلاحظ في هذه المرحلة أيضًا أن الأطفال يبدأون في تذكر الكلمات أو العبارات التي يتم استخدامها في محيطهم، مما يساعدهم على بناء الذاكرة السردية، وهي قدرة الطفل على سرد الأحداث التي مرت عليه باستخدام الكلمات. هذه القدرة تعتبر من أهم مراحل تطور الذاكرة في سنوات العمر الأولى، حيث تبدأ الذاكرة في التوسع من مجرد تذكر الأشياء إلى تذكر الأحداث والأحداث المتسلسلة.

المرحلة الخامسة: الذاكرة طويلة الأمد والأحداث المهمة

من حوالي سن الثانية إلى سن الثالثة، تتطور الذاكرة بشكل ملحوظ، حيث تبدأ الذاكرة الطويلة الأمد في التكون. الأطفال في هذه المرحلة قادرون على تذكر أحداث مرّت عليهم في فترة زمنية أطول، مثل ذكرى العطلات أو الرحلات العائلية، بل وأحياناً الحكايات المتكررة التي سمعتها بشكل مستمر.

في هذه المرحلة، يتعلم الطفل كيفية ربط الأحداث ببعضها البعض لتشكيل سرد قصة متكامل. كما تبدأ الذاكرة الحسية والإدراكية في التداخل مع الأنواع الأخرى من الذكريات، مما يسمح للأطفال بدمج تجاربهم الحسية السابقة مع الذكريات الطويلة الأمد. هؤلاء الأطفال يكون لديهم ذاكرة أكثر تطورًا لتنظيم المعلومات وربطها بتجاربهم اليومية.

المرحلة السادسة: الذاكرة المنظمة والتخزين المعرفي

بحلول السنة الرابعة إلى الخامسة، يكتسب الأطفال القدرة على ترتيب وتنظيم الذكريات وفقًا للأحداث أو المفاهيم المرتبطة بها. في هذه المرحلة، تبدأ الذاكرة المعرفية بالظهور، حيث يمكن للأطفال تصنيف الأشياء بناءً على اللون أو الشكل أو الفئة، وهو ما يساعدهم على تطوير مهارات التعرف والفهم المعقدة.

تبدأ الذاكرة التصويرية واللفظية في التفاعل مع بعضها البعض، مما يسهل للأطفال القدرة على استرجاع المعلومات بشكل منظم ومرتب. من هذه النقطة، يصبح الأطفال أكثر قدرة على تذكر التفاصيل الصغيرة للأحداث الماضية وربطها بتسلسل زمني.

العوامل المؤثرة في تطور الذاكرة

تتأثر عملية تشكيل الذاكرة لدى الأطفال بالعديد من العوامل الداخلية والخارجية. على الصعيد الداخلي، يتضمن ذلك نمو الدماغ، حيث تلعب البيئة العصبية دورًا كبيرًا في عملية الذاكرة. تساهم الجينات في تحديد سرعة تطور المناطق الدماغية التي تساهم في الذاكرة.

أما على الصعيد الخارجي، فإن البيئة المحيطة لها تأثير كبير على طريقة تطور الذاكرة. الأطفال الذين ينشأون في بيئات غنية بالتحفيز العقلي والتفاعل الاجتماعي يميلون إلى تطور ذاكرتهم بشكل أسرع وأقوى. من ناحية أخرى، الأطفال الذين يفتقرون إلى التحفيز أو الدعم العاطفي قد يواجهون تحديات في نمو ذاكرتهم.

ختامًا

إن الذاكرة، على الرغم من أنها قد تبدأ ببساطة في الأشهر الأولى من الحياة، فإنها تتطور مع مرور الوقت لتصبح أكثر تعقيدًا وعمقًا. من خلال مراحل نمو الطفل المختلفة، يظهر كيف أن الدماغ البشري يربط بين المحفزات الحسية والعاطفية والتجريبية، وكيف يقوم بتخزين واسترجاع الذكريات بشكل فعال. يتطلب تطور الذاكرة التفاعل المستمر بين العوامل الوراثية والبيئية، وهذه العوامل تتحد لتشكل تجاربنا الشخصية التي تشكلنا على مدار حياتنا.