محمد نوح القضاة: سيرة علمية ودينية وفكرية متكاملة

يُعد الدكتور محمد نوح القضاة من أبرز الشخصيات الدينية والعلمية والاجتماعية في العالم العربي والإسلامي خلال العقود الأخيرة. جمع بين الفكر الديني الأصيل والتعليم الأكاديمي العالي، وبرز كداعية ومفكر ومربٍ وقائد مجتمعي ساهم في تشكيل الوعي الديني المعتدل في الأردن والعالم العربي. تميز بأسلوبه الخطابي المؤثر، وبلغته البسيطة العميقة في آنٍ واحد، وقدرته على ربط النصوص الدينية بواقع الناس بأسلوب يجمع بين الأصالة والمعاصرة.

النشأة والتكوين

وُلد محمد نوح القضاة في مدينة إربد شمال المملكة الأردنية الهاشمية عام 1969، ونشأ في بيئة علمية محافظة، فوالده العلامة الشيخ نوح القضاة كان مفتيًا للمملكة الأردنية الهاشمية، وواحدًا من كبار علماء الفقه في العالم الإسلامي. تلقى محمد نوح تربيته الدينية الأولى في كنف أسرته التي أولت التعليم الشرعي أهمية قصوى، وقد انعكس هذا بوضوح على مساره العلمي لاحقًا، حيث سلك درب طلب العلم من سن مبكرة، وحفظ القرآن الكريم وتعلم علومه قبل التحاقه بالتعليم الأكاديمي الرسمي.

التعليم والتأهيل الأكاديمي

أكمل دراسته الثانوية في الأردن، ثم حصل على درجة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية من الجامعة الأردنية، إحدى أعرق الجامعات في العالم العربي. واصل دراسته العليا في جامعة العلوم الإسلامية العالمية حيث حصل على الماجستير ثم الدكتوراه في الفقه الإسلامي وأصوله. تميزت أطروحاته البحثية بالجمع بين الدقة العلمية والمعالجة الواقعية للقضايا الفقهية والاجتماعية، الأمر الذي أهله لأن يكون مرجعًا فكريًا للعديد من المهتمين بالشأن الديني والاجتماعي.

العمل الدعوي والخطابي

برز محمد نوح القضاة كخطيب مفوه منذ سنوات شبابه الأولى، فكان يُستضاف في كبرى المساجد والمنابر في الأردن والعالم العربي، حيث عُرف بخطبه التي تمزج بين التأصيل الشرعي والتفاعل مع قضايا المجتمع. لم تقتصر نشاطاته الدعوية على المساجد فقط، بل توسعت لتشمل البرامج الإذاعية والتلفزيونية والمحاضرات العامة والملتقيات الدولية.

كان من أبرز برامجه التلفزيونية برنامج “مع الله”، الذي عُرض على عدة فضائيات عربية، حيث ناقش فيه قضايا الإيمان والأخلاق والتزكية بلغة روحية وعقلانية جذبت مختلف شرائح المجتمع. كما شارك في عدة برامج دينية على قنوات مثل قناة اقرأ وقناة الرسالة وقنوات أردنية محلية، حيث تميزت مشاركاته بالهدوء، والاتزان، والعمق الفكري.

المناصب التي شغلها

شغل الدكتور محمد نوح القضاة عدة مناصب أكاديمية ودينية وإدارية مهمة، نذكر منها:

• وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في الأردن في حكومة فايز الطراونة عام 2012، وهو منصب استراتيجي في دولة مثل الأردن، التي تولي الشأن الديني مكانة كبيرة، نظرًا لدورها في إدارة شؤون المسجد الأقصى المبارك والوصاية الهاشمية على المقدسات.

• عضو مجلس الأعيان الأردني، وهو أحد غرفتي البرلمان الأردني، ما يعكس مكانته لدى القيادة السياسية وثقة الدولة في رؤيته الفكرية والدينية.

• أستاذ جامعي ومحاضر في عدد من الجامعات الأردنية، خاصة في كلية الشريعة، حيث ترك بصمته العلمية على أجيال من الطلبة.

• رئيس المركز العالمي للوسطية في الأردن، والذي يُعنى بنشر قيم الاعتدال والتسامح ونبذ التطرف الديني والفكري.

الفكر الديني والنهج الوسطي

يُعد محمد نوح القضاة من أبرز دعاة الوسطية في العالم الإسلامي، حيث تبنى نهجًا وسطيًا يقوم على التوازن بين النصوص الشرعية ومتغيرات الواقع. رفض الغلو والتشدد والتسييس المفرط للدين، وفي المقابل دعا إلى تقديم الدين بصورة عقلانية وروحية تربوية بعيدة عن التعصب.

ركز في دعوته على:

• التربية الإيمانية الفردية كأساس لأي إصلاح مجتمعي.

• القيم الأخلاقية العليا كالصدق والأمانة والإحسان كركائز للدعوة.

• دور المرأة في المجتمع الإسلامي وأهمية تمكينها ضمن الأطر الشرعية.

• التعايش بين الأديان والطوائف وأهمية الخطاب الديني المعتدل في بناء السلم الاجتماعي.

• تصحيح المفاهيم المغلوطة التي يُروج لها بعض المتشددين في قضايا مثل الجهاد، الحاكمية، الولاء والبراء، والحدود.

الحضور الإعلامي

يمتلك محمد نوح القضاة أسلوبًا فريدًا في الحديث الإعلامي، يتميز بالعفوية والتأثير العاطفي والمعرفي في آن. وقد حقق حضورًا إعلاميًا لافتًا بفضل مشاركته في برامج تلفزيونية وإذاعية ولقاءات مجتمعية عديدة، وكان له دور في تشكيل خطاب ديني معتدل وقريب من الناس.

كما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في توسعة دائرة تأثيره، إذ يملك حضورًا قويًا على منصات مثل فيسبوك ويوتيوب وتويتر، حيث يشارك بفيديوهات قصيرة ومقالات تعالج قضايا يومية بروح علمية شرعية.

مشاركاته الدولية

شارك محمد نوح القضاة في العديد من المؤتمرات الدولية المعنية بالحوار بين الأديان والثقافات، ومكافحة التطرف، ونشر الوسطية. وكان له دور بارز في تقديم رؤية إسلامية عقلانية حول قضايا مثل الإرهاب، وعلاقة الإسلام بالغرب، والحرية الدينية.

ومن أبرز المحافل التي شارك فيها:

• مؤتمرات رابطة العالم الإسلامي.

• منتديات التعايش والتفاهم بين الأديان في أوروبا وأمريكا.

• مؤتمرات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر.

• اللقاءات الدولية في الأردن حول حوار الحضارات.

الجانب الإنساني والاجتماعي

لم يقتصر دور القضاة على الجوانب الدعوية أو الفكرية فحسب، بل انخرط في العمل الاجتماعي والإنساني بفعالية. أنشأ عدة مبادرات مجتمعية تهدف إلى دعم الشباب، وتقديم المساعدة للفقراء والمحتاجين، ورعاية الأيتام.

من أبرز مبادراته:

المؤلفات والإنتاج العلمي

ألف الدكتور محمد نوح القضاة عددًا من الكتب التي تُعنى بالتربية الإسلامية والفقه والفكر الدعوي، من بينها:

• كتاب “مع الله”: سلسلة تربوية روحية تهدف إلى ربط المسلم بخالقه من خلال مفاهيم الإيمان، التوكل، الرزق، الرحمة الإلهية.

• كتاب “خُلق الحبيب”: يتناول فيه أخلاق النبي محمد ﷺ وتطبيقاتها العملية في حياتنا المعاصرة.

• كتاب “الإسلام والحياة”: يقدم فيه رؤية متكاملة للعلاقة بين الشريعة الإسلامية والحياة اليومية للإنسان المسلم.

• مجموعة من الكتيبات الصغيرة والدروس الصوتية التي تتناول موضوعات مثل “بر الوالدين”، “النية”، “التوبة”، و”الزهد”.

الإرث العلمي والدعوي

يمثل الدكتور محمد نوح القضاة نموذجًا متميزًا للداعية المعاصر الذي يجمع بين الرسوخ العلمي، والحضور المجتمعي، والوعي الإعلامي. وقد أسهم بشكل فعال في:

• إعادة الاعتبار للخطاب الديني الوسطي في العالم العربي.

• تحقيق مصالحة بين الدين والحياة الحديثة عبر تقديم خطاب ديني غير منفصل عن الواقع.

• تكوين جيل من الدعاة الشباب من خلال برامجه التدريبية والإرشادية.

• الدفاع عن الإسلام في وجه حملات التشويه وخاصة في الغرب.

شخصية مؤثرة في الرأي العام

على المستوى الشعبي، يحظى محمد نوح القضاة باحترام واسع في الأردن والعالم العربي، فقد أصبح رمزًا للخطاب الديني التنويري. لا يتحدث من منطلق حزبي أو أيديولوجي، بل يضع مصلحة الإنسان والأمة في صلب اهتمامه. يتمتع بكاريزما قيادية وروح شبابية، مما جعله محبوبًا بين الشباب الذين يجدون في خطابه الروحي والتربوي ما يُلبي حاجاتهم النفسية والفكرية.

وفاته وتأثيره المستمر

توفي الدكتور محمد نوح القضاة في 19 مارس 2022، بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي والديني والمجتمعي. وقد شكّل خبر وفاته صدمة في الأوساط الدينية والاجتماعية، لما له من مكانة كبيرة وتأثير عميق. نعت شخصيات دينية وسياسية عربية وعالمية الفقيد، وأُقيمت له جنازة مهيبة في الأردن شارك فيها آلاف من محبيه وطلابه ومريديه.

ورغم رحيله الجسدي، فإن إرثه العلمي والخطابي والروحي لا يزال حاضرًا بقوة، من خلال تسجيلاته وكتبه ومبادراته، فضلًا عن الأثر التربوي الذي تركه في قلوب وعقول الآلاف ممن تلقوا على يديه تعاليم الإيمان والمحبة والرحمة.

المراجع

1. وزارة الأوقاف الأردنية – أرشيف الوزراء السابقين.

2. محمد نوح القضاة – برنامج مع الله، قناة الرسالة، حلقات أرشيفية.