فكر التضليل.. حتى الأرقام تكذب

في عالم يفيض بالمعلومات ويتّسم بتدفّق البيانات من كل حدب وصوب، لم تعد الحقيقة واضحة ولا الوقائع مفهومة دائمًا كما هي. لقد دخل العالم عصرًا جديدًا من التضليل المتقن، حيث لم يعد الكذب يقتصر على الأقوال أو الخطابات، بل امتد إلى أكثر أدوات الإقناع موثوقية: الأرقام والإحصاءات. في هذا السياق، يتخذ “فكر التضليل” بُعدًا جديدًا، إذ تتزيّن الأكاذيب برداء الدقة والموضوعية، وتُقدَّم بعباءة العلم والمنهج، فتُقبَل بسهولة وتنتشر بلا مقاومة.

التضليل كمنظومة فكرية

لم يعد التضليل مجرد تصرف فردي أو سلوك عابر، بل تحول إلى نمط منهجي يُمارَس في وسائل الإعلام، والسياسة، والاقتصاد، وحتى البحث العلمي. هذا النمط يقوم على استخدام المعلومات بطريقة منحازة، أو مجتزأة، أو خارج سياقها، بما يؤدي إلى تشويه الواقع دون الحاجة إلى اختراع الأكاذيب. فالمضلِّل الذكي لا يخترع معلومة جديدة، بل يعيد تشكيل الموجودة منها لتخدم غاياته.

يرتكز فكر التضليل على مبدأ أساسي: “لا حاجة إلى الكذب حين يمكن التلاعب بالحقيقة”. ولذلك، فإن الأساليب المستخدمة اليوم باتت أكثر تعقيدًا، وتعتمد بشكل أساسي على هندسة الرأي العام والتأثير النفسي عبر وسائل تبدو عقلانية وموثوقة.

أرقام بلا روح.. عندما تتحول الإحصاءات إلى أدوات تضليل

لطالما كانت الأرقام تُعتَبَر ملاذًا للحقائق المطلقة، ولكن الواقع يكشف أن الأرقام يمكن أن تكذب، أو بالأحرى، يمكن استخدامها بطريقة تجعلها تخدع. فالإحصاءات لا تتحدث من تلقاء نفسها، بل من خلال من يصيغها ويعرضها، ما يعني أن كل رقم يمكن أن يُقدَّم في صورة مضللة.

أمثلة على تزييف الأرقام

1. الانتقائية في عرض البيانات: عندما تُعرض نسبة معينة مثل “70% من المواطنين راضون عن الخدمة” دون ذكر حجم العينة أو طريقة اختيارها، فإن هذه النسبة تفقد معناها العلمي، وتتحول إلى وسيلة تضليل مغلّفة بالشرعية الرقمية.

2. استخدام المتوسطات بشكل مضلل: قد يُقال إن متوسط دخل الأفراد في دولة ما هو 3000 دولار شهريًا، دون ذكر التوزيع الفعلي للدخول. في حال كان هناك قلة قليلة تتقاضى دخولًا خيالية، وكثرة تعيش تحت خط الفقر، فإن المتوسط يكون مخادعًا.

3. إخفاء القيم المرجعية: إذا قيل إن نسبة البطالة انخفضت من 10% إلى 8%، يبدو ذلك تحسنًا. لكن إذا لم تُذكر الظروف الاقتصادية أو أن الانخفاض نتج عن خروج أعداد من الباحثين عن العمل من سوق العمل، فإن النتيجة ليست تحسنًا بل خداعًا.

الإعلام بوابة التضليل الناعم

وسائل الإعلام هي الحاضن الرئيس لفكر التضليل الحديث. من خلال ما يسمى “التأطير الإعلامي” (Framing)، تُقدَّم الوقائع ضمن سياقات معينة تؤثر في فهم المتلقّي للحدث. وقد يتم إغفال معلومات مهمة أو التركيز على أخرى بصورة انتقائية لتحقيق أهداف معينة. هذا التحيز في العرض قد لا يكون دائمًا مقصودًا، ولكنه يتحول في كثير من الأحيان إلى استراتيجية منظمة تخدم أجندات خفية.

يُستخدم العنوان كأداة تضليل فعالة: عناوين تثير العاطفة وتخفي المعنى الحقيقي، أو تُضخم من الأثر دون الإشارة إلى التفاصيل. أما الصور والمقاطع البصرية، فهي أدوات قوية في دعم التضليل البصري والنفسي، مما يزيد من قوة التأثير وسرعة الانتشار.

التضليل السياسي.. صناعة الرأي العام

في السياسة، أصبح استخدام الأرقام المضخّمة أو الموجّهة أحد أساليب حملات الدعاية، سواء من قبل الحكومات أو المعارضات. تُستخدم مؤشرات مثل النمو الاقتصادي، أو البطالة، أو التضخم، أو نسب الإنجاز في المشاريع الكبرى، في تبرير السياسات أو مهاجمتها. غير أن هذه المؤشرات لا تكون دائمًا دقيقة، بل يتم التلاعب بها عبر اختيار نقاط بداية ونهاية ملائمة، أو استبعاد متغيرات حرجة، أو إعادة تعريف المفاهيم.

في الانتخابات مثلًا، تُستخدم استطلاعات الرأي كأدوات تضليل نفسي لتوجيه سلوك الناخبين. فحين يُنشر استطلاع يشير إلى تفوق مرشح معين بفارق كبير، فإن ذلك يؤثر على قرارات الناخبين الآخرين الذين قد يشعرون بعدم جدوى التصويت، أو الرغبة في الانضمام للـ”أغلبية”.

الاقتصاد وخداع المؤشرات

المؤشرات الاقتصادية تمثل إحدى أكثر الأدوات عرضة للتضليل. فالنمو الاقتصادي قد يتحقق على الورق بزيادة الناتج المحلي الإجمالي، لكن لا يعني بالضرورة تحسنًا في معيشة المواطنين إذا كان ذلك النمو نتيجة لارتفاع أرباح قطاع واحد فقط مثل النفط أو قطاع مالي معين. كذلك، فإن نسبة التضخم قد يتم إعلانها ضمن حدود “مقبولة”، بينما تتجاوز الأسعار الفعلية تلك الأرقام في الواقع بسبب تجاهل بعض البنود الاستهلاكية من سلة الأسعار.

جدول توضيحي: مقارنة بين الأرقام “الرسمية” و”الواقعية”

التضليل في البحث العلمي

حتى في مجال يُفترض أنه من أكثر المجالات تحصينًا ضد التلاعب، لا يخلو البحث العلمي من أشكال التضليل. يتم أحيانًا تصميم الدراسات بطريقة تؤدي إلى نتائج محددة مسبقًا، أو تُحذف البيانات التي لا تتفق مع الفرضيات، أو يتم تمويل أبحاث من قبل جهات لها مصلحة في نتائج معينة.

في المجالات الطبية، على سبيل المثال، جرى استخدام الإحصاءات المغلوطة لتسويق أدوية بآثار جانبية جسيمة أو لفرض دراسات غير متكاملة عن اللقاحات أو العلاجات. وقد ساعدت منصات النشر العلمي المدفوعة والضغط التمويلي في تضخيم هذه الظاهرة.

علم النفس والتضليل الإدراكي

من الجوانب الخطيرة في فكر التضليل أنه يستند إلى فهم عميق للكيفية التي يعالج بها الإنسان المعلومات. تعتمد استراتيجيات التضليل على ما يُعرف بالتحيّزات المعرفية (Cognitive Biases)، مثل:

• التحيز التأكيدي: الميل إلى تصديق المعلومات التي تتفق مع معتقدات الفرد المسبقة.

• أثر الهالة: الانطباع العام عن المصدر يؤثر في الحكم على صدق المعلومة.

• التحيز للمتاح: المعلومات المتكررة تبدو أكثر صدقًا حتى لو كانت مغلوطة.

من خلال استغلال هذه التحيزات، يسهل على المضللين زرع مفاهيم خاطئة في أذهان الجماهير دون الحاجة إلى إقناع منطقي مباشر.

التكنولوجيا و”التضليل الرقمي”

مع صعود الذكاء الاصطناعي وتقنيات التزييف العميق (Deepfake)، دخل التضليل الرقمي مرحلة أكثر خطورة. لم يعد التلاعب بالمعلومات يقتصر على النصوص أو الإحصاءات، بل شمل الصور والصوت والفيديو، وأصبح بإمكان الجهات المضللة إنتاج محتوى مزيف يبدو حقيقيًا تمامًا.

وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تسريع انتشار المعلومات المضللة، حيث تنتشر الشائعات أسرع من التصحيحات، ويتعزز تأثير “الفقاعات المعرفية” التي يعيش فيها كل مستخدم ضمن دائرة معلوماتية تؤكد معتقداته، وتُقصي الرأي الآخر.

نحو وعي مضاد للتضليل

مواجهة فكر التضليل لا يكون بتكذيب كل شيء أو الوقوع في فخ الشك المطلق، بل ببناء عقل نقدي قادر على تحليل وتقييم المعلومات. يشمل ذلك:

• التحقق من مصادر البيانات، وتقييم مصداقيتها.

• فهم السياقات التي تُعرض فيها الأرقام.

• التمييز بين الرأي والمعلومة.

• البحث عن التفاصيل الغائبة والافتراضات الضمنية.

• التدرب على مهارات التفكير النقدي والإحصائي.

الخلاصة

فكر التضليل ليس عارضًا عابرًا، بل هو ظاهرة ثقافية وهيكلية تتغلغل في مفاصل الحياة المعاصرة، مستفيدة من التطور التكنولوجي والكم الهائل من البيانات لتعيد تشكيل المفاهيم وتحريف الوقائع. الأرقام التي كانت يومًا أداة للصدق والموضوعية، أصبحت اليوم سلاحًا يُستخدم في المعارك الإعلامية والسياسية والاقتصادية، فتُبنى السياسات العامة على وقائع مشوهة، ويتخذ الأفراد قرارات مصيرية على أسس واهية.

الوعي بهذه الآليات لا يعني رفض الأرقام أو الإحصاءات، بل استرداد أدوات الفهم والتحليل من براثن التضليل المنهجي، وبناء علاقة جديدة مع البيانات قوامها النقد والتفسير لا التسليم والانبهار. فالحقيقة، مهما اختُبِئت خلف جدار الأرقام، تظل قابلة للكشف متى ما تسلّح الإنسان بالمعرفة والمنهج والتفكير السليم.

المراجع:

1. Huff, D. (1954). How to Lie with Statistics. W. W. Norton & Company.

2. O’Neil, C. (2016). Weapons of Math Destruction: How Big Data Increases Inequality and Threatens Democracy. Crown Publishing.