لماذا يُسلِّم كثير من الرجال قيادة البيت للمرأة؟

في المجتمعات التقليدية، لطالما ارتبطت قيادة البيت والقرارات الأسرية الكبرى بالرجل، حيث كان يُنظر إليه على أنه رب الأسرة والمُوجِّه الأول لمسار الحياة اليومية داخل الأسرة. غير أن التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي شهدها العالم خلال العقود الأخيرة أعادت تشكيل توزيع الأدوار داخل المنزل، وأفرزت ظاهرة واضحة في كثير من البيوت العربية والعالمية: تسليم الرجل قيادة البيت للمرأة، سواء جزئياً أو كلياً. هذا التحول يثير تساؤلات متعددة حول أسبابه، دوافعه، وآثاره النفسية والاجتماعية، ويكشف عن تعقيد العلاقة بين الجنسين في زمن تتداخل فيه الأدوار وتتغير فيه الأولويات.

التحولات الاقتصادية ودورها في إعادة توزيع الأدوار

أحد أبرز العوامل التي دفعت العديد من الرجال إلى تسليم القيادة للمرأة هو التحول الجذري في الواقع الاقتصادي. فقد باتت المرأة عنصراً محورياً في سوق العمل، وتسهم في تأمين الدخل إلى جانب الرجل، بل وفي بعض الحالات تتفوق عليه من حيث حجم الدخل والثبات المهني. ومع تغير المعادلة الاقتصادية داخل الأسرة، تغير معها ميزان السلطة، إذ صار لمن يُمَوِّل المنزل صوت أقوى في تحديد أولوياته وشؤونه.

وفي حالات كثيرة، حين يفقد الرجل وظيفته أو لا يستطيع مواكبة الالتزامات المادية المتزايدة، قد يجد نفسه مضطراً لتنازل جزئي أو كلي عن دور القيادة، ليملأ الفراغ شريكته التي أثبتت كفاءة مهنية واستقلالاً مالياً. هذا التحول لا يعني بالضرورة ضعفاً في شخصية الرجل، وإنما يعكس تكيّفاً مع متغيرات الواقع التي لم تعد تُبقي القرار داخل البيت رهيناً بالنوع الاجتماعي، بل بالمقدرة والقدرة على التسيير الفعلي.

التعليم وارتفاع وعي المرأة

التغير الملحوظ في مستوى تعليم المرأة وانخراطها في مجالات تخصصية ومهنية عالية التأثير أكسبها وعياً وقدرة تنظيمية واستراتيجية جعلت منها طرفاً أساسياً في إدارة شؤون البيت، بل ومبادرة في الكثير من الأحيان. ومع تحصيل المرأة لمؤهلات علمية رفيعة، تزايدت ثقتها في النفس وتعاظم دورها الإداري داخل الأسرة. فليس من الغريب أن تجد نساءً يُجدن التخطيط المالي، وتنظيم مصاريف البيت، وترتيب الأولويات التربوية والاجتماعية بما يفوق الرجل في بعض السياقات.

وفي ظل تراجع نسبة الأمية وازدياد فرص المرأة في التعليم العالي، تبدل مفهوم “القيادة الأسرية” من نموذج أحادي متمركز حول الرجل إلى نموذج تشاركي، تتحمل فيه المرأة مسؤوليات القرار والتنفيذ أحياناً بمفردها، خاصة إذا لمس الرجل منها حكمة وحُسن تدبير.

التراخي النفسي لدى بعض الرجال

من الزوايا النفسية والسلوكية، يُلاحظ أن بعض الرجال يختارون بإرادتهم التنازل عن دور القيادة الأسرية، إما هرباً من المسؤولية أو كسلاً عن مواكبة متطلبات الحياة الأسرية المعاصرة، أو لأنهم نشأوا في بيئات تسودها الهيمنة النسائية. فالتنشئة تلعب دوراً محورياً في ترسيخ النماذج القيادية، فإذا نشأ الشاب في بيت تقوده الأم، وشهد نموذجاً تكون فيه المرأة هي الطرف المُبادِر والمنظِّم، قد يتطور لديه ميلٌ فطري لتكرار النمط ذاته في حياته الزوجية.

هذا النوع من الرجال قد يشعر براحة نفسية في أن تُمسك شريكته بزمام الأمور، لا عن ضعف منه، بل عن انعدام الرغبة في خوض صراعات يومية تتطلب طاقة نفسية وتنظيماً دقيقاً، خاصة مع تزاحم المهام العملية والاجتماعية.

الانبهار بنموذج “المرأة القوية”

في سياق التأثير الثقافي العالمي، برزت نماذج إعلامية وشخصيات نسائية قيادية في مجالات السياسة والاقتصاد والعلوم والفن، مما ساهم في خلق نموذج “المرأة القوية” التي لا تنتظر التوجيه بل تضع الخطط وتنفذها وتتحمل العواقب. ومع تكرار هذا النموذج في الأفلام والمسلسلات والأعمال الأدبية، تسرب إلى الوعي الجمعي تصور جديد للمرأة، لا على أنها داعمة للرجل فقط، بل كقائدة بامتياز.

تأثر بعض الرجال بهذا النموذج، خاصة من الجيل الشاب، أدى إلى تقبلهم أو حتى تفضيلهم للمرأة ذات الشخصية القوية والمبادِرة. هؤلاء لا يشعرون بالتهديد من تسليم القيادة لها، بل يرون في ذلك انسجاماً مع روح العصر وكفاءة التوزيع المنطقي للأدوار حسب الإمكانات وليس الجنس.

التفكك الأسري والنمط الأبوي الغائب

في عدد من الحالات، يرجع تسليم القيادة للمرأة إلى غياب النموذج الأبوي الصارم أو الحازم داخل الأسرة. فالأب المتساهل أو الغائب بحكم العمل أو الطلاق أو الوفاة، يخلق مساحة للمرأة كي تمارس السلطة وتُطوِّر أسلوبها القيادي مع الأبناء، بل وأحياناً مع الرجل الجديد في حياتها. في هذه الأجواء، يصبح من الطبيعي أن تنتقل زمام الأمور إلى يد المرأة، خصوصاً إذا كانت الطرف الأكثر حضوراً وتفاعلاً مع تفاصيل الحياة اليومية.

وفي بيئات يغيب فيها التأهيل التربوي والنفسي للذكور لأداء أدوارهم داخل الأسرة، يتراجع دور الرجل إلى الهامش، وتبرز الحاجة الملحة لأن تتولى المرأة القيادة حفاظاً على تماسك العائلة وسيرورة الحياة اليومية بشكل سليم.

تغير مفهوم القيادة الأسرية

من الضروري التوقف عند التطور الذي شهده مفهوم “القيادة الأسرية”. فقيادة البيت لم تعد تعني السلطوية أو الفرض المطلق للرأي، بل غدت مفهوماً أكثر مرونة وتشاركية. القيادة اليوم تستلزم مهارات إدارية وعاطفية ونفسية ومعرفية، لا تُختزل في شخص الرجل أو المرأة، بل تتوزع حسب الكفاءة والظرف الاجتماعي. ولهذا، فإن الكثير من الرجال يختارون تسليم القيادة للمرأة ليس عن ضعف أو تخلي، بل باعتبارها أكثر تأهيلاً في بعض الميادين الخاصة بشؤون الأسرة.

ويُضاف إلى ذلك أن الحياة المعاصرة باتت تفرض أن تكون هناك إدارة مرنة للأسرة، تقوم على توزيع المهام وليس على المركزية. وفي هذا الإطار، قد تتولى المرأة القيادة اليومية بينما يحتفظ الرجل بدور المرجعية أو المستشار، أو يتدخل عند اتخاذ القرارات المصيرية، ما يُنتج نموذجاً مزدوج القيادة، يتناوب فيه الطرفان وفق الحاجة والقدرة.

آثار هذا التحول على البنية الأسرية

تحمل هذه الظاهرة آثاراً متنوعة على البنية الأسرية. فمن جهة، قد تسهم في توازن داخلي فعّال حين تكون المرأة مؤهلة فعلاً للقيادة، ويكون الرجل متفهماً وداعماً. أما في حال كان تسليم القيادة يتم بشكل اضطراري ودون تفاهم أو احترام متبادل، فقد يتولد عنه اختلال في السلطة وتراجع لدور الرجل كمرجعية داخل البيت، مما يؤدي إلى صراعات خفية أو معلنة، خاصة في بيئات تُحمِّل الرجل عبء الفشل الأسري حتى إن لم يكن هو القائد الفعلي.

وقد يشعر الأبناء، خصوصاً الذكور، بارتباك في تحديد النموذج القيادي الذي يُحتذى به، فإذا كانت الأم هي صاحبة القرار والمُوجِّهة الكبرى، قد يُضعف ذلك من سلطة الأب في نظرهم. كما قد يترتب على هذا اختلالات في التوازن العاطفي والانفعالي لدى الأولاد، إذا لم تُحسن الأسرة توزيع الأدوار وضبط المسافات النفسية بينهم وبين الوالدين.

الجدول التالي يُبرز مقارنة بين أنماط القيادة الأسرية

الخلاصة

ظاهرة تسليم الرجل قيادة البيت للمرأة تعكس تحولات جذرية في المفاهيم الاجتماعية والأدوار الأسرية، وهي ليست دائماً سلبية كما قد يتصور البعض. ففي كثير من الأحيان، تُمثّل مؤشراً على وعي مشترك، وتكيّف مرن مع متطلبات الواقع. ومع ذلك، تظل الحاجة ملحّة للحفاظ على توازن دقيق بين الأدوار داخل الأسرة، بما يضمن حضوراً فعّالاً للرجل والمرأة على حد سواء، ويُحصِّن المؤسسة الأسرية من التفكك والارتباك التربوي.

المصادر:

• F. Hochschild, The Second Shift: Working Families and the Revolution at Home, Penguin Books, 2012.

• عبد الكريم بكار، تكوين المفكر: خطوات عملية، دار السلام، القاهرة، 2010.