تربية الآباء قبل تربية الأبناء: ضرورة حضارية وتربوية لبناء أجيال متوازنة

إنّ الحديث عن التربية غالبًا ما يتّجه مباشرةً إلى الأبناء: كيف نعلّمهم؟ كيف نغرس فيهم القيم؟ كيف نجنّبهم الانحراف؟ غير أن هذا التوجّه يُغفل أمرًا في غاية الأهمية، بل هو شرطٌ سابقٌ لكلّ تربية سليمة: تربية الآباء أنفسهم. فتربية الأبناء لا يمكن أن تؤتي أُكلها إلا حين يكون الآباء قد مرّوا هم أنفسهم بعملية وعي، وتزكية، وتعلّم، وتنمية للذات، تؤهّلهم للقيام بمهمّتهم الكبرى وهي صناعة الإنسان. لا يمكن تربية النشء بشكل سويّ إذا كانت أُسس التربية لدى المربّي نفسه مختلّة أو منعدمة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وتكرار أنماط فاسدة من التربية لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج أجيال تعاني الاغتراب النفسي والسلوكي والاجتماعي.

المحور الأول: تربية الآباء ضرورة أخلاقية وسلوكية

حين يولد الطفل لا يأتي ومعه دليل استعمال أو قائمة تعليمات، بل يستمدّ فهمه للعالم من سلوك والديه. من هنا، فإن الأب والأم لا يمكنهما غرس القيم العليا في الأبناء – كالصدق، والعدل، والتسامح، واحترام الآخر – ما لم يكونا هم أنفسهم قد جسّدوا هذه القيم في سلوكهم اليومي. فالأطفال لا يتعلّمون من الأوامر اللفظية بقدر ما يتعلّمون من الممارسة والملاحظة. وإذا كان الأب يقول لابنه “لا تكذب” بينما هو يكذب، أو الأم تقول “احترم الناس” وهي تسيء للآخرين، فإن هذا التناقض سيخلق لدى الطفل انقسامًا نفسيًا ويغرس فيه ازدواجية المعايير.

إن تربية الآباء هي في جوهرها عملية إعادة تأهيل للقيم والمبادئ، وهي دعوة لمحاسبة النفس قبل محاسبة الأبناء. وهي لا تعني بالضرورة كمالًا أخلاقيًا أو مثالية بشرية، بل تعني السعي نحو الأفضل، والصدق مع الذات، والاعتراف بالخطأ وتعديله، لأن التربية لا تحتاج إلى آباء معصومين، بل إلى آباء صادقين، واعين بمسؤوليتهم الإنسانية والحضارية.

المحور الثاني: التربية الوالدية وعلاقتها بالذكاء العاطفي والنضج النفسي

في الدراسات التربوية الحديثة، ثبُت بما لا يدع مجالًا للشك أن نجاح التربية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالذكاء العاطفي لدى المربّي. ويُقصد بالذكاء العاطفي قدرة الإنسان على فهم مشاعره، وتنظيم انفعالاته، والتعاطف مع الآخرين، واتخاذ قرارات مبنية على توازن بين العاطفة والعقل. وكلّ هذه المهارات لا تُكتسب عشوائيًا، بل تحتاج إلى وعي داخلي، ونضج نفسي، وتدريب مستمر.

كثير من الآباء يتعاملون مع أبنائهم من منطلق الانفعال، فيصرخون ويهددون ويضربون لأنهم لا يملكون أدوات ضبط النفس ولا مهارات التواصل الإيجابي. هذه الأساليب لا تنمّ عن قوّة أو هيبة، بل هي في حقيقتها تعبير عن ضعف داخلي وافتقار إلى النضج العاطفي. ومن هنا، تصبح تربية الآباء أنفسهم ضرورة لتعلّم التحكم في الذات، والتفاعل الإيجابي، وفهم مراحل نمو الطفل وحاجاته النفسية المختلفة.

المحور الثالث: الآباء بين ميراث التربية القديمة ومتغيرات العصر

إنّ كثيرًا من الآباء في مجتمعاتنا العربية يرثون أنماطًا تربوية تقليدية تعتمد على القسوة، والطاعة العمياء، والسلطة المطلقة، لأنهم عاشوا في بيئات أسرية قائمة على هذه القواعد. لكن العالم تغيّر، والأطفال اليوم يملكون وعيًا أكبر، واحتكاكًا واسعًا بالعالم عبر وسائل التواصل والتكنولوجيا، ولم يعد بالإمكان فرض النماذج القديمة عليهم دون مساءلة. من هنا، تبرز الحاجة الماسّة إلى أن يراجع الآباء أدواتهم التربوية وأن يتحرّروا من أنماطهم القديمة التي قد لا تصلح لعصرنا الحالي.

تربية الآباء في هذا السياق تعني القدرة على التعلّم، والمرونة، والانفتاح على الجديد دون فقدان الأصول. تعني التخلّي عن التعصّب لرأي لمجرد أنه “ما تربّينا عليه”، واستبداله بوعي يستند إلى فهم سيكولوجية الجيل، وآليات بناء الشخصية، والتواصل الفعّال. ويُعد هذا التحوّل من التقليد الأعمى إلى الوعي الاختياري من أبرز مؤشرات نجاح التربية الأبوية المعاصرة.

المحور الرابع: أثر التربية الذاتية للآباء على الصحة النفسية للأسرة

تُعدّ الأسرة وحدة نفسية قبل أن تكون وحدة اجتماعية. وما يدور داخل البيت من تفاعلات بين الأبوين، ومن ثم بينهما وبين الأبناء، يُشكّل النواة الأساسية لسلامة الطفل النفسية. وفي كثير من الأحيان، تكون الاضطرابات النفسية للأطفال ناتجة عن صراعات غير ظاهرة بين الوالدين أو نتيجة لجهل أحد الأبوين أو كليهما بأسس الصحة النفسية. هنا تبرز أهمية التربية الذاتية للآباء كوقاية للأسرة بأكملها من الانهيار أو من إنتاج أجيال مضطربة داخليًا.

يشمل ذلك فهم أنماط الشخصية، والتعامل مع الضغوط، وإدارة الغضب، ومواجهة القلق والاكتئاب، وتعلّم استراتيجيات الحزم دون عنف، والحب دون تدليل مفرط. هذه المهارات لا تُولد مع الإنسان، بل تُكتسب بالتدريب والمعرفة، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى أن يخضع الآباء – مثلهم مثل المعلمين والمربين – لتكوين معرفي ونفسي مستمر، يؤهّلهم لتربية أطفال أقوياء نفسيًا ومجتمعيًا.

المحور الخامس: الجدول المرجعي لتقييم الأهلية التربوية للآباء

هذا الجدول يمكن أن يُستخدم كأداة أولية من قبل الآباء لتقييم مدى استعدادهم التربوي، وهو لا يهدف إلى إصدار أحكام، بل إلى تشجيع التطوير والتحسين الذاتي.

المحور السادس: التربية بالقدوة… حجر الزاوية في التربية الأبوية

يؤكد علماء النفس والتربية أن القدوة من أقوى وسائل التربية، وأن تأثيرها يفوق مئات النصائح والخطب التوجيهية. وما لم يكن الأب قدوة في الصدق والانضباط واحترام الوقت والمسؤولية، فإنّ كلامه سيبقى جوفاء. وكذلك الأم، حين تنادي بحسن الخلق والحياء، لا بد أن تتجسّد هذه القيم في تصرفاتها أمام أبنائها. إنّ التربية ليست مسألة تنظير، بل هي فعل معاش وسلوك يومي، تُزرع فيه القيم لا بالكلام، بل بالتكرار والملاحظة والاحتكاك المباشر.

تربية الآباء إذن تعني بناء قدوات حية، يشعر بها الطفل ويحيا في ظلالها، وهي تتطلب من الآباء أن يعملوا على ذواتهم، ويصلحوا عيوبهم، ويتجاوزوا ضعفهم، في رحلة لا تخلو من ألم، ولكنّها تُثمر أجيالًا ناضجة، مسؤولة، وشخصيات قوية متصالحة مع نفسها.

المحور السابع: انعكاسات تربية الآباء على المجتمع بأكمله

التربية ليست شأنًا فرديًا، بل مشروع حضاري، تبدأ نواته من البيت، لكن آثاره تتعدّى الجدران إلى المجتمع بأكمله. الآباء الذين ربّوا أنفسهم أولًا، هم الذين يربّون أبناءهم ليكونوا مواطنين صالحين، قادرين على الإسهام في نهضة أوطانهم. وهم الذين يُخرّجون قادة ومفكرين وفنانين وعلماء، لا فقط ناجحين دراسيًا، بل متّزنين نفسيًا، ومتمكّنين من أدواتهم الداخلية لمواجهة الحياة بثقة وأصالة.

إنّ تربية الآباء أنفسهم هي في النهاية مشروع نهضوي، وهي المسار الحقيقي للتغيير الاجتماعي المستدام. فلا يمكن بناء مجتمعات قويمة إذا لم تُبْنَ على أسر قويمة، ولا يمكن للأسر أن تكون قويمة ما لم يُربِّ الآباء أنفسهم أولًا.

المراجع:

• عبد الكريم بكار، التربية والتجديد الحضاري، دار المعرفة، 2008.

• طارق الحبيب، مفاتيح لفهم النفس البشرية، مكتبة العبيكان، 2012.