تراجع ساعات النوم وأثره

ساعات نوم البشر تتراجع.. والنتائج خطرة

في العقود الأخيرة، شهد العالم تحولاً جذرياً في نمط الحياة اليومية، لا سيما فيما يتعلق بعدد ساعات النوم التي يحصل عليها الإنسان. ففي زمنٍ كانت فيه الراحة الليلية تحظى باحترام كبير وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من الروتين الصحي، أصبح النوم اليوم ضحية لضغوط العمل، والتكنولوجيا، وأنماط الحياة المتسارعة. تشير الدراسات العلمية إلى أن متوسط عدد ساعات النوم التي يحصل عليها الإنسان في العصر الحديث قد تراجع بشكل مقلق، ما أدى إلى نتائج صحية ونفسية واجتماعية وخيمة تهدد مستقبل الأجيال الحالية والقادمة.

أولاً: التراجع في ساعات النوم.. بالأرقام

أظهرت الأبحاث التي أُجريت على مدى العقود الماضية في كل من الولايات المتحدة، أوروبا، والعديد من دول العالم، أن متوسط ساعات النوم اليومي تراجع من حوالي 8 ساعات في منتصف القرن العشرين إلى أقل من 6 ساعات ونصف في بعض الدول الصناعية. هذا الانخفاض يُعزى إلى أسباب متعددة، أبرزها:

• انتشار الأجهزة الإلكترونية (الهواتف، الحواسيب، التلفاز) التي تبث ضوءاً أزرق يعيق إفراز هرمون الميلاتونين المسؤول عن النوم.

• ضغوط الحياة المهنية والدراسية وتضخم المسؤوليات اليومية.

• التوسع في ساعات العمل ونظام الورديات الليلية.

• الاعتماد المتزايد على المنبهات مثل الكافيين ومشروبات الطاقة.

ثانياً: التأثيرات البيولوجية لتراجع النوم

النوم ليس مجرد حالة من “إيقاف التشغيل” للجسم، بل هو عملية بيولوجية شديدة التعقيد تحفز تجدد الخلايا، وإصلاح الأنسجة، وتنظيم الهرمونات، وتعزيز عمل الجهاز العصبي. تقليص عدد ساعات النوم يؤدي إلى اختلالات واسعة تشمل:

1. اضطرابات هرمونية:

قلة النوم تؤثر بشكل مباشر على إنتاج الهرمونات الأساسية، مثل:

• الأنسولين: ضعف تنظيم إفراز الأنسولين يؤدي إلى ارتفاع خطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني.

• اللبتين والجريلين: هذان الهرمونان ينظمان الشهية، وقلة النوم تؤدي إلى زيادة الجوع، وبالتالي السمنة.

• الكورتيزول: يُعرف بهرمون التوتر، وتزداد مستوياته عند النوم القليل، مما يؤثر سلباً على جهاز المناعة والدماغ.

2. ضعف الجهاز المناعي:

النوم يعزز إنتاج الخلايا التائية والبروتينات المناعية، لذا فإن نقصه يجعل الجسم أكثر عرضة للفيروسات والالتهابات.

3. تدهور الوظائف العصبية:

قلة النوم تؤثر بشكل مباشر على الذاكرة، سرعة الاستجابة، التركيز، وحل المشكلات. بل وتُضعف مناطق في الدماغ مثل القشرة الجبهية المرتبطة باتخاذ القرار والسلوك الاجتماعي.

ثالثاً: نتائج صحية خطرة طويلة المدى

أمراض القلب والأوعية:

تربط الدراسات بين قلة النوم وارتفاع ضغط الدم، وتزايد نسبة الإصابة بأمراض الشريان التاجي والجلطات القلبية. فالنوم القليل يؤدي إلى خلل في ضغط الدم الليلي، ما يؤثر على سلامة الأوعية والشرايين.

السرطان:

أبحاث منظمات مثل المعهد الوطني للسرطان في الولايات المتحدة ربطت بين تراجع ساعات النوم وزيادة احتمال الإصابة ببعض أنواع السرطان، خصوصاً سرطان الثدي وسرطان القولون، وذلك بسبب اختلال الساعة البيولوجية وتثبيط جهاز المناعة.

الاضطرابات النفسية:

قلة النوم ترتبط ارتباطاً وثيقاً باضطرابات المزاج مثل القلق والاكتئاب، وحتى تطور بعض الحالات الذهانية. كما أن الأرق المزمن هو عامل خطر للإقدام على الانتحار في بعض الحالات المرضية.

الحوادث والإصابات:

قلة النوم تؤدي إلى تراجع في مستوى الانتباه والتركيز، مما يزيد من احتمالات الحوادث، سواء في الطرق أو أماكن العمل. وقد بيّنت بعض الدراسات أن السائق الذي ينام أقل من 5 ساعات يومياً يُعادل في خطورته السائق تحت تأثير الكحول.

رابعاً: الأسباب السلوكية والاجتماعية لتراجع النوم

إن التغييرات الاجتماعية والثقافية أدّت إلى تهميش النوم كأولوية صحية. من أبرز هذه التغيرات:

• ثقافة الإنتاجية المفرطة: يربط كثيرون النجاح المهني بزيادة ساعات العمل، حتى لو جاء ذلك على حساب النوم.

• إدمان الشاشات: تعرض الأفراد وخاصة المراهقين للهواتف الذكية حتى ساعات متأخرة يؤثر على جودة النوم ووقته.

• الضجيج الحضري والبيئة غير المهيئة: التوسع العمراني ونمط الحياة في المدن الكبرى ساهم في ارتفاع معدلات الأرق نتيجة الضجيج والإضاءة الزائدة.

خامساً: النوم عند الأطفال والمراهقين.. كارثة صامتة

الأخطر في هذا التراجع أنه لم يقتصر على البالغين فحسب، بل طال أيضاً الأطفال والمراهقين. تشير الدراسات إلى أن:

• ما يقارب 70% من المراهقين ينامون أقل من الحد الموصى به (8–10 ساعات يومياً).

• تراجع النوم عند الأطفال يؤدي إلى اضطرابات في النمو البدني والعقلي والسلوكي.

• ضعف النوم يفاقم مشاكل فرط النشاط ونقص التركيز (ADHD)، ويؤثر على التحصيل الدراسي.

سادساً: الأبعاد الاقتصادية لتراجع النوم

قد يبدو أن النوم مسألة صحية فقط، لكن له أيضاً تبعات اقتصادية ضخمة. التقديرات تشير إلى أن:

تشمل هذه الخسائر انخفاض الإنتاجية، تكاليف الرعاية الصحية، الحوادث المهنية والمرورية، والتغيب عن العمل.

سابعاً: اضطرابات النوم.. الوباء الصامت

في ظل تراجع ساعات النوم، ارتفعت معدلات الإصابة باضطرابات النوم المختلفة مثل:

• الأرق المزمن (Chronic Insomnia): الذي يعاني منه ملايين البشر حول العالم بشكل مستمر.

• توقف التنفس أثناء النوم (Sleep Apnea): يرتبط بالسمنة وقلة النوم ويزيد خطر أمراض القلب.

• متلازمة تململ الساقين: تؤثر على جودة النوم وتسبب الإزعاج الليلي المتكرر.

كل هذه الاضطرابات تزيد من تعقيد المشكلة وتستلزم تدخلاً علاجياً دقيقاً.

ثامناً: ماذا يخبرنا العلم عن الحاجة البيولوجية للنوم؟

الإنسان يحتاج إلى النوم كحاجته للطعام والماء. يتوزع النوم على مراحل محددة:

• مرحلة النوم الخفيف (N1-N2)

• مرحلة النوم العميق (N3)

• مرحلة حركة العين السريعة (REM) وهي المرتبطة بالأحلام والتعلم والتعافي الذهني.

تقليص أي من هذه المراحل يؤثر سلباً على الصحة الجسدية والعقلية، ويمنع الاستفادة البيولوجية الكاملة من النوم.

تاسعاً: كيف نعيد للنوم مكانته؟

إعادة الاعتبار للنوم يتطلب تضافر جهود مجتمعية وطبية وتعليمية. من الاستراتيجيات الناجحة:

• تحديد أوقات ثابتة للنوم والاستيقاظ.

• إيقاف استخدام الشاشات قبل النوم بساعة على الأقل.

• تقليل المنبهات كالقهوة والسكر مساءً.

• تهيئة غرفة النوم ببيئة هادئة ومظلمة وباردة نسبياً.

• نشر الوعي عبر المؤسسات التعليمية والصحية والإعلام.

عاشراً: النوم ليس رفاهية.. بل ضرورة بقاء

ما نراه من تراجع في ساعات النوم يجب ألا يُنظر إليه كأمر طبيعي أو جزء من ضريبة الحياة العصرية. بل هو ناقوس خطر يتطلب استجابة سريعة من الأفراد والمؤسسات والدول. فالصحة النفسية والبدنية، والنمو المعرفي، وسلامة المجتمعات، واستدامة الاقتصاد، كلها تبدأ من نوم صحي عميق وكافٍ.

المصادر والمراجع:

1. Walker, M. (2017). Why We Sleep: Unlocking the Power of Sleep and Dreams. Scribner.

2. National Sleep Foundation – www.sleepfoundation.org