ترتيب القرآن الكريم وأسراره

ترتيب القرآن الكريم: ترتيب رباني أم اجتهاد بشري؟

إن القرآن الكريم، الذي هو الكتاب الخاتم في سلسلة الوحي الإلهي، يمثل النور الرباني الذي اختتمت به الرسالات السماوية إلى البشر، وقد حظي بعناية إلهية خاصة في كل مراحل نزوله، جمعه، ترتيبه، وحفظه. لكن من القضايا المهمة التي شغلت بال العلماء والمفسرين، وطرحت في العديد من الدراسات القرآنية، قضية ترتيب سور وآيات القرآن الكريم: هل كان ترتيبًا توقيفيًا من الله عز وجل أم أنه جاء باجتهاد الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ؟

هذا السؤال لا يتناول فقط الجانب التاريخي، بل يمتد إلى أبعاد عقدية وتشريعية وتفسيرية مهمة، وهو ما يفرض علينا دراسة موسعة لمفهوم ترتيب القرآن، أشكاله، أبعاده، وتاريخه، مع الاستناد إلى ما ورد من النصوص الصحيحة وآراء العلماء.

أولًا: مفهوم ترتيب القرآن

ترتيب القرآن الكريم يعني تسلسل السور والآيات في المصحف كما هو معروف اليوم، بدءًا بسورة الفاتحة وانتهاءً بسورة الناس، مع ملاحظة أن هذا الترتيب يختلف عن ترتيب النزول الزمني للآيات والسور.

وينقسم ترتيب القرآن إلى قسمين رئيسيين:

1. ترتيب الآيات داخل السور.

2. ترتيب السور داخل المصحف.

ثانيًا: ترتيب الآيات داخل السور

أجمع علماء الأمة على أن ترتيب الآيات داخل كل سورة هو ترتيب توقيفي من عند الله عز وجل، أي أن النبي ﷺ كان يأمر بوضع كل آية في موضعها بأمر من الله، حيث قال الزركشي في “البرهان في علوم القرآن”: “ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيف من النبي عليه الصلاة والسلام عن أمر ربه، ولم يُترك ذلك لاجتهاد الصحابة بعده.”

وقد ثبت في أحاديث كثيرة أن جبريل عليه السلام كان يعرض القرآن على النبي ﷺ كل عام مرة في رمضان، وفي السنة التي توفي فيها عُرض عليه مرتين، وكان ذلك بمثابة تثبيت وترتيب نهائي للآيات.

وإذا تتبعنا طريقة النبي ﷺ في الإملاء على كُتّاب الوحي، نجد أنه يقول لهم بعد نزول الآية: “ضعوها في الموضع الذي يُذكر فيه كذا…”، مما يدل على أن الترتيب لم يكن عشوائيًا، بل بأمر إلهي واضح.

ثالثًا: ترتيب السور في المصحف

أما ترتيب السور فمحل خلاف بين العلماء، وقد انقسمت آراءهم إلى فريقين رئيسيين:

1. الترتيب التوقيفي

ذهب كثير من العلماء، من أبرزهم الإمام مالك، القاضي أبو بكر الباقلاني، الزركشي، السيوطي وغيرهم، إلى أن ترتيب السور أيضًا كان بتوقيف من النبي ﷺ، وأن جبريل عليه السلام بلّغ النبي ترتيب السور كما هو في اللوح المحفوظ، وأن النبي بلّغ الصحابة بذلك.

يستدل هؤلاء على ذلك بما ورد في أحاديث العرضة الأخيرة، حيث قرأ النبي ﷺ القرآن على جبريل مرتين في السنة التي توفي فيها، وهي العرضة التي اعتمدها الصحابة في الجمع النهائي في عهد الخليفة عثمان بن عفان.

2. الترتيب الاجتهادي

وهو رأي بعض العلماء أمثال الإمام النووي، الذين قالوا إن ترتيب السور، بخلاف ترتيب الآيات، كان باجتهاد الصحابة، ويدل على ذلك الاختلاف في ترتيب بعض السور في المصاحف الأولى التي كتبت قبل الجمع العثماني.

لكن هذا الرأي لا ينفي أن النبي ﷺ كان له دور في ترتيب كثير من السور، حتى إن بعض المفسرين أوردوا نصوصًا فيها ترتيب سور كما في حديث: “اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران…”، وهو يدل على وجود ترتيب معتمد بين بعض السور على الأقل.

رابعًا: الفرق بين ترتيب النزول وترتيب المصحف

من المهم التمييز بين ترتيب النزول الزمني للآيات والسور، وبين الترتيب الرسمي في المصحف العثماني:

فمثلًا سورة العلق كانت أول ما نزل من القرآن، لكنها تقع في نهاية المصحف تقريبًا، بينما سورة البقرة نزلت بعد الهجرة، لكنها تأتي مباشرة بعد الفاتحة.

والحكمة من هذا الترتيب ليست زمنية، بل تتعلق ببناء الهيكل العام للقرآن من حيث المضامين والأهداف، وهذا ما يتفق مع المعنى الإعجازي للقرآن الكريم.

خامسًا: الخصائص البلاغية في ترتيب القرآن

إن ترتيب القرآن كما هو في المصحف لا يقوم على العشوائية أو التدرج الزمني فحسب، بل هناك ترابط بلاغي ودلالي عميق بين السور والآيات، يكشف عن وحدة موضوعية محكمة رغم تباعد الأزمنة والمناسبات.

1. الترابط الموضوعي

نجد أن نهاية سورة غالبًا ما ترتبط ببداية السورة التالية، فمثلًا:

• سورة الأنفال تنتهي بقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾، وتبدأ التوبة: ﴿بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، ما يشير إلى الانتقال من النصر إلى مواجهة النفاق.

2. الانتقال من العام إلى الخاص أو العكس

كثيرًا ما يتم الانتقال من العموم إلى التخصيص أو من الفرض إلى البيان العملي، بما يحقق التوازن في البناء السردي والتشريعي.

3. التنويع في الأسلوب

من خصائص ترتيب السور والآيات أن الأسلوب يتغير بين سور قصيرة وسور طويلة، أو بين أسلوب جدلي وأسلوب قصصي، وهذا يخلق توازنًا سمعيًا ونفسيًا في التلقي.

سادسًا: ترتيب المصاحف عبر العصور

بعد وفاة النبي ﷺ، جُمِع القرآن الكريم في مصحف واحد في عهد أبي بكر الصديق، ثم جُمع جمعًا موحدًا في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، واعتمد في ذلك على العرضة الأخيرة التي عرضها النبي ﷺ على جبريل.

ومن ثم أصبحت المصاحف العثمانية المعيار الذي وُزِّع على الأمصار الإسلامية كافة، واعتُمد ترتيبها في كل ما جاء بعدها من نسخ للمصحف.

ومن الجدير بالذكر أن جميع القراء العشرة المشهورين اعتمدوا نفس الترتيب الموجود حاليًا، مع اختلاف في بعض الروايات القرآنية (مثل ورش أو حفص)، لكن دون أي تغيير في الترتيب العام للسور والآيات.

سابعًا: حكمة الترتيب القرآني

في دراسة أعمق للحكمة من ترتيب سور وآيات القرآن بالشكل الذي بين أيدينا اليوم، يمكن إبراز عدد من الفوائد:

• تحقيق الاتساق الموضوعي: فالمصحف يبدأ بالفاتحة، التي هي أم الكتاب، ويختم بالمعوذتين اللتين تحميان المسلم من الشرور.

• الربط بين الأحكام والتزكية: كأن تتبع السور التي تحتوي على تشريعات بسور تهتم بالإيمان والتقوى.

• التدرج في بناء العقيدة: فالسور المكية تقدم القضايا الكبرى: التوحيد، النبوة، البعث، بينما السور المدنية تعالج قضايا المجتمع والدولة.

• حفظ القرآن وانتشاره: بفضل هذا الترتيب الرباني/النبوي، حفظ المسلمون القرآن في صدورهم بسهولة وحرصوا على ترتيله وفق ما وُضع.

ثامنًا: أثر ترتيب القرآن على التفسير

ترتيب الآيات والسور ليس فقط مسألة شكلية، بل له أثر عميق على فهم المفسرين للمعاني والسياقات، وقد انتبه لذلك علماء المدرسة التفسيرية الحديثة مثل محمد الطاهر بن عاشور، وفاضل السامرائي، ومحمود شلتوت، فاعتبروا ترتيب السور عنصرًا حاسمًا في الكشف عن البناء الدلالي للقرآن.

فالتفسير الموضوعي، على سبيل المثال، لا يمكن أن يتم إلا في ضوء الفهم الصحيح لترتيب المواضيع والسياقات ضمن السورة الواحدة، وارتباط السورة بما قبلها وما بعدها.

تاسعًا: الجدول المقارن بين ترتيب النزول وترتيب المصحف

هذا الجدول يُظهر بوضوح كيف أن ترتيب المصحف لا يتبع تسلسل النزول التاريخي، بل يراعي اعتبارات أخرى تتعلق بالتدرج التربوي، والترابط الموضوعي، ووحدة الرسالة.

عاشرًا: موقف العلماء من التلاوة وفق الترتيب

رغم أن ترتيب السور في المصحف توقيفي على الراجح، إلا أن العلماء أفتوا بجواز قراءة السور بغير ترتيبها في الصلاة، وهو ما دلت عليه بعض الأحاديث، لكنهم أجمعوا على استحباب الترتيب التام في القراءة، لأنه الأوفق بهدي النبي ﷺ والأكثر تحقيقًا للتدبر والانتظام.

المصادر والمراجع

1. الزركشي، “البرهان في علوم القرآن”.

2. السيوطي، “الإتقان في علوم القرآن”.