﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾ – التشريع الإسلامي في تحريم التبنّي وتثبيت النسب

تُعدُّ مسألة النسب من أهم القضايا التي اهتم بها التشريع الإسلامي، نظراً لما لها من أثر بالغ على البنية الاجتماعية، والهوية الفردية، والحقوق والواجبات الشرعية. وقد جاء القرآن الكريم بحُكمٍ قاطعٍ في مسألة التبنّي وتغيير الأنساب، في قوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: 5]، حيث يأمر الله تعالى بردّ كل من نُسب إلى غير أبيه إلى أبيه الحقيقي، باعتبار أن ذلك أعدل وأقسط وأحقّ بالحق والعدل.

إن هذا الحكم لا يأتي ضمن دائرة الأمور الشكلية أو الهامشية في حياة المسلم، بل يُمثل أحد أركان تنظيم العلاقات الاجتماعية والحقوق الشرعية. فالنسب ليس مجرد تسمية أو صفة، بل هو رابط شرعي يترتب عليه أحكام الميراث، المحرمية، الولاية، النفقة، وغيرها من الأحكام الفقهية الدقيقة التي تنظم حياة الأفراد والجماعات.

أولاً: الخلفية التاريخية والتشريعية لنزول الآية

كان من عادة العرب في الجاهلية أن يتبنّوا أولاداً ليسوا من صلبهم، وينسبوهم إليهم، فيصبح الابن المتبنّى كأنه ابنٌ حقيقي بكل ما يترتب على ذلك من أحكام. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما كان من رسول الله ﷺ مع زيد بن حارثة، حيث تبنّاه قبل البعثة، وكان يُدعى بـ “زيد بن محمد” حتى أنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية التي حرّمت التبنّي بمعناه الاصطلاحي وفرضت نسبة الإنسان لأبيه الحقيقي.

جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن بيت النبي ﷺ وما دار فيه من أحداث تتعلق بزيد بن حارثة وزواجه وطلاقه من زينب بنت جحش، التي أمر الله تعالى نبيه أن يتزوّجها بعد أن طلقها زيد، ليُبطل بذلك العرف الجاهلي الذي كان يعتبر المتبنّى كالابن الصلبي، ولتكون سنّة عملية حاسمة في القضاء على هذه العادة.

ثانياً: المعنى اللغوي والشرعي للآية

تتكوَّن الآية من تعبير دقيق وبليغ:

• ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾: أي انسبوهم إلى آبائهم الحقيقيين. وهذا أمر صريح بالإلغاء النهائي لأي علاقة نسبية وهمية تربط الإنسان بمن ليس له به صلة دم أو ولادة.

• ﴿هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾: أي هذا هو العدل الحقيقي في ميزان الله، لأنه يعيد الحق لأهله، ويمنع ظلم أحد في النسب والحقوق المترتبة عليه.

فجاء الأمر الإلهي بالقطع مع أي نظام اجتماعي يُبنى على تغيير الأنساب، ولو كان ذلك بحسن نية، واعتبار أن تبنّي طفل يتيم أو فقير من باب الرحمة.

ثالثاً: التبنّي في الجاهلية والإسلام

1. التبنّي في الجاهلية

كان التبنّي في الجاهلية يقوم على قواعد تجعل الابن المتبنّى كأنه ولد صُلبي، يرث ويُورَث، وتثبت له أحكام البنوة، بما فيها المحرمية والنفقة. وكان ذلك يُشكّل خللاً كبيراً في النظام الأسري، وقد يؤدي إلى اختلاط الأنساب وتضييع الحقوق.

2. موقف الإسلام من التبنّي

جاء الإسلام بنظام بديل يقوم على التكافل والرعاية دون مساس بالنسب. فالرسول ﷺ تبنّى زيداً في الجاهلية، ولكن بعد الإسلام ونزول التشريع، أصبح يُدعى بـ “زيد بن حارثة”. وعليه، ألغى الإسلام التبنّي بمعناه الجاهلي، واحتفظ فقط بجانب الرعاية والكفالة من دون المساس بالنسب.

رابعاً: الأحكام المترتبة على تحريم التبنّي

1. الميراث

الابن المتبنّى لا يرث من الذي تبنّاه ولا يُورِّثه، إذ لا رابطة نسب شرعية بينهما. وقد نصت الشريعة الإسلامية على أن الميراث محصور بين ذوي الأرحام والقرابة بالنسب أو النكاح.

2. المحرمية

لا تثبت المحرمية بين المُتبنّي والمتبنّى، وبالتالي لا يجوز للخاطب أن يتزوج من بنات المتبنّي أو العكس، لأن العلاقات الشرعية لا تثبت إلا بالنسب أو الرضاعة أو المصاهرة.

3. الولاية والنفقة

لا ولاية للمُتبنّي على المتبنّى، كما أنه لا يلزم بالنفقة عليه شرعاً، إلا إذا تولّى كفالته تطوعاً لله عز وجل، وحينها تكون العلاقة مبنية على الإحسان لا على الحقوق المتبادلة.

4. الاسم والهوية

وجب على كل من انتُسب لغير أبيه أن يُعيد اسمه إلى أصله الحقيقي إن عُرف، أو يُنسب إلى أمه أو يبقى باسم فردي دون نسبة، كما ورد في روايات صحيحة عن الصحابة الذين غيّروا أسماء مَن كانوا تبنّوهم بعد نزول الحكم.

خامساً: كفالة اليتيم بديلاً عن التبنّي

جاء الإسلام بنظام الكفالة، وهو بديل رحيم عن التبنّي. فالكفالة تضمن للطفل اليتيم أو الفقير الرعاية والاهتمام والتعليم، ولكن دون المساس بنسبه، أو منحه حقوقاً لا تجوز له شرعاً.

وقد وردت في فضل كفالة اليتيم نصوص كثيرة، منها قول النبي ﷺ: “أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا” وأشار بالسبّابة والوسطى وفرّق بينهما. فالكفالة من أعظم القربات، لكنها لا تعني بأي حال من الأحوال نسبة الطفل إلى غير أبيه.

سادساً: الأبعاد الاجتماعية والنفسية للنسب

1. الهوية والكرامة الإنسانية

النسب هو جزء من هوية الإنسان، وتزويره قد يؤدي إلى صراعات نفسية عميقة وفقدان للهوية. والشعور بالانتماء إلى سلالة معينة يُعدّ جزءاً من التكوين النفسي والثقافي للفرد.

2. العدالة والمساواة

تغيير النسب يؤدي إلى ظلم مزدوج؛ للأب الحقيقي الذي يُحرَم من الانتساب لولده، وللولد الذي يُزوّر اسمه ونسبه. والعدالة تقتضي ردّ الأمور إلى نصابها، كما جاء في الآية: ﴿هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾.

3. منع اختلاط الأنساب

من مقاصد الشريعة الكبرى حفظ النسب. وقد كان التبنّي مدخلاً لاختلاط الأنساب، وهو ما دفع الإسلام إلى تحريمه وإيجاد بدائل عادلة له.

سابعاً: تطبيقات نبوية على تحريم التبنّي

من أبرز التطبيقات العملية لهذا الحكم ما فعله النبي ﷺ عندما تزوّج من زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة. وكان هذا الفعل كسراً للعرف الجاهلي وتأكيداً أن زيداً لم يكن ابناً حقيقياً له، وإلا ما جاز له الزواج من زوجة ابنه.

وكانت هذه الحادثة كاشفةً للناس على أن التبنّي لا يُنشئ حرمة شرعية ولا ينشئ أحكاماً شرعية على غرار ما هو حاصل في النسب.

ثامناً: تحذيرات شرعية من تغيير النسب

وردت نصوص كثيرة تُحذّر من الانتساب لغير الأب الحقيقي. قال النبي ﷺ: “من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام” [رواه البخاري ومسلم].

وقد عدّ الفقهاء هذا من الكبائر، لأن فيه تزويراً لآيات الله وتعدياً على مقاصد الشريعة.

تاسعاً: الحالات المعاصرة وإشكالية التبنّي المدني

في كثير من القوانين الوضعية المعاصرة، لا يزال التبنّي يُمارس بوصفه آلية قانونية لإنشاء علاقة “بنوة مدنية”، مع ما يترتب عليها من ميراث، وحقوق، ونسب قانوني. وقد تبنّت بعض الدول المسلمة هذه القوانين في فترات التبعية القانونية للمستعمر، لكنها تُناقض بوضوح أحكام الشريعة الإسلامية.

وما تزال بعض القوانين تُجيز تسمية الابن المتبنّى باسم العائلة، وهو ما يُخالف النص القرآني الصريح. وتُعدّ العودة لتطبيق هذا الحكم القرآني ضرورة شرعية وقانونية، للحفاظ على هوية الأمة وأخلاقها.

عاشراً: جدول الفرق بين الكفالة والتبنّي

الخاتمة

﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾ ليست مجرد توجيه لغوي أو تقني، بل هي قاعدة شرعية وأصل من أصول العدل الإلهي. فهي تحمي الأنساب، وتصون الحقوق، وتحفظ الكرامة الإنسانية، وتؤسس لمجتمع نقي من التزوير والخلط في الأنساب. وكل مجتمع يسعى إلى العدل يجب أن ينطلق من هذه القاعدة الأصيلة التي شرعها الله، وأكّدها رسوله ﷺ في سنته وسيرته.

المراجع:

• تفسير الطبري، جامع البيان.

• صحيح البخاري، كتاب الفرائض.